فصل: تفسير الآيات رقم (15 - 16)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير القرآن العظيم ***


تفسير الآيات رقم ‏[‏15 - 16‏]‏

‏{‏قُلْ أَذَلِكَ خَيْرٌ أَمْ جَنَّةُ الْخُلْدِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ كَانَتْ لَهُمْ جَزَاءً وَمَصِيرًا لَهُمْ فِيهَا مَا يَشَاءُونَ خَالِدِينَ كَانَ عَلَى رَبِّكَ وَعْدًا مَسْئُولًا‏}‏

يقول تعالى‏:‏ يا محمد، هذا الذي وصفناه من حال أولئك الأشقياء ، الذين يحشرون على وجوههم إلى جهنم، فتتلقاهم بوجه عبوس وبغيظ وزفير، ويُلقَون في أماكنها الضيقة مقرَّنين، لا يستطيعون حراكا، ولا انتصاراً ولا فكاكا مما هم فيه -‏:‏ أهذا خير أم جنة الخلد التي وعدها الله المتقين من عباده، التي أعدها لهم، وجعلها لهم جزاء على ما أطاعوه في الدنيا، وجعل مآلهم إليها‏.‏

‏{‏لَهُمْ فِيهَا مَا يَشَاءُونَ‏}‏ ‏[‏أي‏]‏ ‏:‏ من الملاذ‏:‏ من مآكل ومشارب، وملابس ومساكن، ومراكب ومناظر، وغير ذلك، مما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خَطَر على قلب أحد ‏.‏ وهم في ذلك خالدون أبدا دائما سرمدا بلا انقطاع ولا زوا، ولا انقضاء، لا يبغون عنها حوَلا‏.‏ وهذا من وَعْد الله الذي تفضل به عليهم، وأحسن به إليهم، ولهذا قال‏:‏ ‏{‏كَانَ عَلَى رَبِّكَ وَعْدًا مَسْئُولا‏}‏ أي لا بد أن يقع وأن يكون، كما حكاه أبو جعفر بن جرير، عن بعض علماء العربية أن معنى قوله‏:‏ ‏{‏وَعْدًا مَسْئُولا‏}‏ أي‏:‏ وعدا واجبا‏.‏

وقال ابن جُرَيْج، عن عطاء، عن ابن عباس ‏{‏كَانَ عَلَى رَبِّكَ وَعْدًا مَسْئُولا‏}‏ يقول‏:‏ سلوا الذي واعدتكم -أو قال‏:‏ واعدناكم -نُنْجِزْ‏.‏

وقال محمد بن كعب القُرَظي في قوله‏:‏ ‏{‏كَانَ عَلَى رَبِّكَ وَعْدًا مَسْئُولا‏}‏‏:‏ إن الملائكة تسأل لهم ذلك‏:‏ ‏{‏رَبَّنَا وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدْتَهُمْ‏}‏ ‏[‏غافر‏:‏ 8‏]‏‏.‏

وقال أبو حازم‏:‏ إذا كان يوم القيامة قال المؤمنون‏:‏ ربنا عملنا لك بالذي أمرتنا، فأنجز لنا ما وعدتنا‏.‏ فذلك قوله‏:‏ ‏{‏وَعْدًا مَسْئُولا‏}‏‏.‏

وهذا المقام في هذه السورة من ذكر النار، ثم التنبيه على حال أهل الجنة، كما ذكر تعالى في سورة ‏"‏الصافات‏"‏ حال أهل الجنة، وما فيها من النضرة والحبور، ثم قال‏:‏ ‏{‏أَذَلِكَ خَيْرٌ نزلا أَمْ شَجَرَةُ الزَّقُّومِ إِنَّا جَعَلْنَاهَا فِتْنَةً لِلظَّالِمِينَ إِنَّهَا شَجَرَةٌ تَخْرُجُ فِي أَصْلِ الْجَحِيمِ طَلْعُهَا كَأَنَّهُ رُءُوسُ الشَّيَاطِينِ فَإِنَّهُمْ لآكِلُونَ مِنْهَا فَمَالِئُونَ مِنْهَا الْبُطُونَ ثُمَّ إِنَّ لَهُمْ عَلَيْهَا لَشَوْبًا مِنْ حَمِيمٍ ثُمَّ إِنَّ مَرْجِعَهُمْ لإلَى الْجَحِيمِ إِنَّهُمْ أَلْفَوْا آبَاءَهُمْ ضَالِّينَ فَهُمْ عَلَى آثَارِهِمْ يُهْرَعُونَ‏}‏ ‏[‏الصافات‏:‏ 62 -70‏]‏‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏17 - 19‏]‏

‏{‏وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَقُولُ أَأَنْتُمْ أَضْلَلْتُمْ عِبَادِي هَؤُلَاءِ أَمْ هُمْ ضَلُّوا السَّبِيلَ قَالُوا سُبْحَانَكَ مَا كَانَ يَنْبَغِي لَنَا أَنْ نَتَّخِذَ مِنْ دُونِكَ مِنْ أَوْلِيَاءَ وَلَكِنْ مَتَّعْتَهُمْ وَآَبَاءَهُمْ حَتَّى نَسُوا الذِّكْرَ وَكَانُوا قَوْمًا بُورًا فَقَدْ كَذَّبُوكُمْ بِمَا تَقُولُونَ فَمَا تَسْتَطِيعُونَ صَرْفًا وَلَا نَصْرًا وَمَنْ يَظْلِمْ مِنْكُمْ نُذِقْهُ عَذَابًا كَبِيرًا‏}‏

يقول تعالى مخبراً عما يَقَع يوم القيامة من تقريع الكفار في عبادتهم مَن عبدوا من دون الله، من الملائكة وغيرهم، فقال‏:‏ ‏{‏وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ‏}‏‏.‏ قال مجاهد‏:‏ عيسى، والعُزَير، والملائكة‏.‏ ‏{‏فَيَقُولُ أَأَنْتُمْ أَضْلَلْتُمْ عِبَادِي هَؤُلاءِ أَمْ هُمْ ضَلُّوا السَّبِيلَ‏}‏ أي‏:‏ فيقول الرب تبارك وتعالى ‏[‏للمعبودين‏]‏ أأنتم دعوتم هؤلاء إلى عبادتكم من دوني، أم هم عبدوكم من تلقاء أنفسهم، من غير دعوة منكم لهم‏؟‏ كما قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنْتَ عَلامُ الْغُيُوبِ‏.‏ مَا قُلْتُ لَهُم‏}‏ إلى آخر الآية؛ ‏[‏المائدة‏:‏ 116 -117‏]‏ ولهذا قال تعالى مخبرًا عما يُجيِب به المعبودون يوم القيامة‏:‏ ‏{‏قَالُوا سُبْحَانَكَ مَا كَانَ يَنْبَغِي لَنَا أَنْ نَتَّخِذَ مِنْ دُونِكَ مِنْ أَوْلِيَاءَ‏}‏ قرأ الأكثرون بفتح ‏"‏النون‏"‏ من قوله‏:‏ ‏{‏نَتَّخِذَ مِنْ دُونِكَ مِنْ أَوْلِيَاءَ‏}‏ أي‏:‏ ليس للخلائق كلهم أن يعبدوا أحدا سواك، لا نحن ولا هم، فنحن ما دعوناهم إلى ذلك، بل هم قالوا ذلك من تلقاء أنفسهم من غير أمرنا ولا رضانا ونحن برآء منهم ومن عبادتهم، كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلائِكَةِ أَهَؤُلاءِ إِيَّاكُمْ كَانُوا يَعْبُدُونَ قَالُوا سُبْحَانَكَ أَنْتَ وَلِيُّنَا مِنْ دُونِهِمْ بَلْ كَانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ أَكْثَرُهُمْ بِهِمْ مُؤْمِنُونَ‏}‏ ‏[‏سبأ‏:‏ 40 -41‏]‏‏.‏ وقرأ آخرون‏:‏ ‏"‏مَا كَانَ يَنْبَغِي لَنَا أَنْ نُتَّخَذَ مِنْ دُونِكَ مِنْ أَوْلِيَاءَ‏"‏ أي‏:‏ ما ينبغي لأحد أن يعبدنا، فإنا عبيد لك، فقراء إليك‏.‏ وهي قريبة المعنى من الأولى‏.‏

‏{‏وَلَكِنْ مَتَّعْتَهُمْ وَآبَاءَهُمْ‏}‏ أي‏:‏ طال عليهم العمر حتى نَسُوا الذكر، أي‏:‏ نسوا ما أنزلته إليهم على ألسنة رسلك، من الدعوة إلى عبادتك وحدك لا شريك لك‏.‏

‏{‏وَكَانُوا قَوْمًا بُورًا‏}‏ قال ابن عباس‏:‏ أي هلكى‏.‏ وقال الحسن البصري، ومالك عن الزهري‏:‏ أي لا خير فيهم‏.‏ وقال ابن الزبعرى حين أسلم‏:‏

يا رَسُولَ المَليك إنّ لسَاني *** رَاتقٌ ما فَتَقْتُ إذْ أنا بُور

إذْ أجاري الشَّيطَانَ في سَنَن الغيْ *** يِ، وَمَن مالَ مَيْلَه مَثْبُور

قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏فَقَدْ كَذَّبُوكُمْ بِمَا تَقُولُونَ‏}‏ أي‏:‏ فقد كذبكم الذين عَبَدْتُم فيما زعمتم أنهم لكم أولياء، وأنكم اتخذتموهم قربانا يقربونكم إليه زلفى، كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَنْ دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ وَإِذَا حُشِرَ النَّاسُ كَانُوا لَهُمْ أَعْدَاءً وَكَانُوا بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ‏}‏ ‏[‏الأحقاف‏:‏ 5 -6‏]‏‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏فَمَا تَسْتَطِيعُونَ صَرْفًا وَلا نَصْرًا‏}‏ أي‏:‏ لا يقدرون على صرف العذاب عنهم ولا الانتصار لأنفسهم، ‏{‏وَمَنْ يَظْلِمْ مِنْكُمْ‏}‏ أي‏:‏ يشرك بالله، ‏{‏نُذِقْهُ عَذَابًا كَبِيرًا‏}‏‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏20‏]‏

‏{‏وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَيَمْشُونَ فِي الْأَسْوَاقِ وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ وَكَانَ رَبُّكَ بَصِيرًا‏}‏

يقول تعالى مخبرا عن جميع مَنْ بعثه من الرسل المتقدمين‏:‏ إنهم كانوا يأكلون الطعام، ويحتاجون إلى التغذي به ‏{‏وَيَمْشُونَ فِي الأسْوَاقِ‏}‏ أي‏:‏ للتكسب والتجارة، وليس ذلك بمناف لحالهم ومنصبهم؛ فإن الله جعل لهم من السمات الحسنة، والصفات الجميلة، والأقوال الفاضلة، والأعمال الكاملة، والخوارق الباهرة، والأدلة ‏[‏القاهرة‏]‏، ما يستدل به كل ذي لب سليم، وبصيرة مستقيمة، على صدق ما جاءوا به من الله عز وجل‏.‏ ونظير هذه الآية الكريمة قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلا رِجَالا نُوحِي إِلَيْهِمْ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى‏}‏ ‏[‏يوسف‏:‏ 109‏]‏‏{‏وَمَا جَعَلْنَاهُمْ جَسَدًا لا يَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَمَا كَانُوا خَالِدِينَ‏}‏ ‏[‏الأنبياء‏:‏ 8‏]‏‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ‏}‏ أي‏:‏ اختبرنا بعضكم ببعض، وبلونا بعضكم ببعض، لنعلم مَن يُطيع ممن يعصي؛ ولهذا قال‏:‏ ‏{‏أَتَصْبِرُونَ وَكَانَ رَبُّكَ بَصِيرًا‏}‏ أي‏:‏ بمن يستحق أن يوحى إليه، كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 124‏]‏، ومن يستحق أن يهديه الله لما أرسلهم به، ومن لا يستحق ذلك‏.‏

وقال محمد بن إسحاق في قوله‏:‏ ‏{‏وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ‏}‏ قال‏:‏ يقول الله‏:‏ لو شئت أن أجعل الدنيا مع رسلي فلا يخالفون، لفعلت، ولكنّي قد أردتُ أن أبتلي العباد بهم،

وأبتليهم بهم‏.‏

وفي صحيح مسلم عن عياض بن حمار، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏يقول الله‏:‏ إني مُبْتَلِيك، ومُبْتَلٍ بك‏"‏‏.‏ وفي المسند عن رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏لو شئت لأجرى الله معي جبال الذهب والفضة‏"‏، وفي الصحيح أنه -عليه أفضل الصلاة والسلام -خُير بين أن يكون نبياً ملكا أو عبداً رسولا فاختار أن يكون عبدا رسولا‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏21 - 24‏]‏

‏{‏وَقَالَ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْمَلَائِكَةُ أَوْ نَرَى رَبَّنَا لَقَدِ اسْتَكْبَرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ وَعَتَوْا عُتُوًّا كَبِيرًا يَوْمَ يَرَوْنَ الْمَلَائِكَةَ لَا بُشْرَى يَوْمَئِذٍ لِلْمُجْرِمِينَ وَيَقُولُونَ حِجْرًا مَحْجُورًا وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا أَصْحَابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا وَأَحْسَنُ مَقِيلًا‏}‏

يقول تعالى مخبرا عن تَعَنُّت الكفار في كفرهم، وعنادهم في قولهم‏:‏ ‏{‏لَوْلا أُنزلَ عَلَيْنَا الْمَلائِكَةُ‏}‏ أي‏:‏ بالرسالة كما نزل على الأنبياء، كما أخبر عنهم تعالى في الآية الأخرى‏:‏ ‏{‏قَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ حَتَّى نُؤْتَى مِثْلَ مَا أُوتِيَ رُسُلُ اللَّهِ‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 124‏]‏، ويحتمل أن يكون مرادهم هاهنا‏:‏ ‏{‏لَوْلا أُنزلَ عَلَيْنَا الْمَلائِكَةُ‏}‏ فنراهم عيانا، فيخبرونا أن محمدا رسول الله، كقولهم ‏:‏ ‏{‏أَوْ تَأْتِيَ بِاللَّهِ وَالْمَلائِكَةِ قَبِيلا‏}‏ ‏[‏الإسراء‏:‏ 92‏]‏‏.‏ وقد تقدم تفسيرها في سورة ‏"‏سبحان‏"‏؛ ولهذا قال ‏:‏ ‏{‏أَوْ نَرَى رَبَّنَا‏}‏ ولهذا قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏لَقَدِ اسْتَكْبَرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ وَعَتَوْا عُتُوًّا كَبِيرًا‏}‏‏.‏ وقد قال ‏[‏الله‏]‏ تعالى‏:‏ ‏{‏وَلَوْ أَنَّنَا نزلْنَا إِلَيْهِمُ الْمَلائِكَةَ وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتَى وَحَشَرْنَا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلا مَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا إِلا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ يَجْهَلُونَ‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 111‏]‏‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏يَوْمَ يَرَوْنَ الْمَلائِكَةَ لا بُشْرَى يَوْمَئِذٍ لِلْمُجْرِمِينَ وَيَقُولُونَ حِجْرًا مَحْجُورًا‏}‏ أي‏:‏ هم لا يرون الملائكة في يوم خير لهم، بل يوم يرون الملائكة لا بشرى يومئذ لهم ، وذلك يَصْدُق على وقت الاحتضار حين تبشرهم الملائكة بالنار، وغضب الجبار، فتقول الملائكة للكافر عند خروج روحه‏:‏ اخرجي أيتها النفس الخبيثة في الجسد الخبيث، اخرجي إلى سَموم وحَميم، وظلِّ من يحموم‏.‏ فتأبى الخروج وتتفرق في البدن، فيضربونه، كما قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏وَلَوْ تَرَى إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُوا الْمَلائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ‏}‏ ‏[‏الأنفال‏:‏ 50‏]‏‏.‏ وقال‏:‏ ‏{‏وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ وَالْمَلائِكَةُ بَاسِطُو أَيْدِيهِمْ‏}‏ أي‏:‏ بالضرب، ‏{‏أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنْتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ وَكُنْتُمْ عَنْ آيَاتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 93‏]‏؛ ولهذا قال في هذه الآية الكريمة‏:‏ ‏{‏يَوْمَ يَرَوْنَ الْمَلائِكَةَ لا بُشْرَى يَوْمَئِذٍ لِلْمُجْرِمِينَ‏}‏، وهذا بخلاف حال المؤمنين في وقت احتضارهم، فإنهم يبشرون بالخيرات، وحصول المسرات‏.‏ قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنزلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ أَلا تَخَافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ نزلا مِنْ غَفُورٍ رَحِيمٍ‏}‏ ‏[‏فصلت‏:‏ 30 -31‏]‏‏.‏

وفي الحديث الصحيح عن البراء بن عازب‏:‏ أن الملائكة تقول لروح المؤمن‏:‏ ‏"‏اخرجي أيتها النفس الطيبة في الجسد الطيب، كنت تعمرينه، اخرجي إلى روح وريحان ورب غير غضبان‏"‏‏.‏ وقد تقدم الحديث في سورة ‏"‏إبراهيم‏"‏ عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ‏}‏ ‏[‏إبراهيم‏:‏ 27‏]‏‏.‏

وقال آخرون‏:‏ بل المراد بقوله‏:‏ ‏{‏يَوْمَ يَرَوْنَ الْمَلائِكَةَ‏}‏ يعني‏:‏ يوم القيامة‏.‏ قاله مجاهد، والضحاك؛ وغيرهما‏.‏

ولا منافاة بين هذا وبين ما تقدم، فإن الملائكة في هذين اليومين يوم الممات ويوم المعاد تتجلى للمؤمنين وللكافرين، فتبشر المؤمنين بالرحمة والرضوان، وتخبر الكافرين بالخيبة والخسران، فلا بشرى يومئذ للمجرمين‏.‏

‏{‏وَيَقُولُونَ حِجْرًا مَحْجُورًا‏}‏ أي‏:‏ وتقول الملائكة للكافرين حَرَام محرم عليكم الفلاح اليوم‏.‏

وأصل ‏"‏الحجر‏"‏‏:‏ المنع، ومنه يقال‏:‏ حَجَر القاضي على فلان، إذا منعه التصرف إما لسفَه، أو فَلَس، أو صغر، أو نحو ذلك‏.‏ ومنه سمي ‏"‏الحجْر‏"‏ عند البيت الحرام؛ لأنه يمنع الطُوَّاف أن يطوفوا فيه ، وإنما يطاف من ورائه‏.‏ ومنه يقال للعقل ‏"‏حجر‏"‏؛ لأنه يمنع صاحبه عن تعاطي ما لا يليق‏.‏

والغرض أن الضمير في قوله‏:‏ ‏{‏وَيَقُولُونَ‏}‏ عائد على الملائكة‏.‏ هذا قول مجاهد، وعكرمة، والضحاك، والحسن، وقتادة، وعطية العوفي، وعطاء الخراساني، وخُصَيف، وغير واحد‏.‏ واختاره ابن جرير‏.‏

وقال ابن أبي حاتم‏:‏ حدثنا أبو نعيم، حدثنا موسى -يعني ابن قيس -عن عطية العوفي، عن أبي سعيد الخدري‏:‏ ‏{‏وَيَقُولُونَ حِجْرًا مَحْجُورًا‏}‏ قال‏:‏ حراما مُحَرّما أن يُبَشَّر بما يبشر به المتقون‏.‏

وقد حكى ابن جرير، عن ابن جُرَيْج أنه قال‏:‏ ذلك من كلام المشركين‏:‏ ‏{‏يَوْمَ يَرَوْنَ الْمَلائِكَةَ‏}‏، ‏[‏أي‏:‏ يتعوذون من الملائكة؛ وذلك أن العرب كانوا إذا نزل بأحدهم نازلة أو شدة‏]‏ يقولون‏:‏ ‏{‏حِجْرًا مَحْجُورًا‏}‏‏.‏وهذا القول -وإن كان له مأخذ ووجه -ولكنه بالنسبة إلى السياق في الآية بعيد، لا سيما قد نص الجمهور على خلافه‏.‏ ولكن قد روى ابنُ أبي نَجِيح، عن مجاهد؛ أنه قال في قوله‏:‏ ‏{‏حِجْرًا مَحْجُورًا‏}‏ أي‏:‏ عوذاً معاذاً‏.‏ فيحتمل أنه أراد ما ذكره ابن جريج‏.‏ ولكن في رواية ابن أبي حاتم، عن ابن أبي نَجِيح، عن مجاهد أنه قال‏:‏ ‏{‏حِجْرًا مَحْجُورًا‏}‏ ‏[‏أي‏]‏‏:‏ عوذا معاذا، الملائكة تقُوله‏.‏ فالله أعلم‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا‏}‏، وهذا يوم القيامة، حين يحاسب الله العباد على ما عملوه من خير وشر، فأخبر أنه لا يتحصل لهؤلاء المشركين من الأعمال -التي ظنوا أنها منجاة لهم -شيء؛ وذلك لأنها فقدت الشرط الشرعي، إما الإخلاص فيها، وإما المتابعة لشرع الله‏.‏ فكل عمل لا يكون خالصا وعلى الشريعة المرضية، فهو باطل‏.‏ فأعمال الكفار لا تخلو من واحد من هذين، وقد تجمعهما معا، فتكون أبعد من القبول حينئذ؛ ولهذا قال تعالى‏:‏ ‏{‏وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا‏}‏‏.‏

قال مجاهد، والثوري‏:‏ ‏{‏وَقَدِمْنَا‏}‏ أي‏:‏ عمدنا‏.‏

قدمنا - وقال السدي‏:‏‏(‏قدمنا‏)‏‏}‏‏:‏ عَمَدنا‏.‏ وبعضهم يقول‏:‏ أتينا عليه‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا‏}‏ قال سفيان الثوري، عن أبي إسحاق، عن الحارث، عن علي، رضي الله عنه، في قوله‏:‏ ‏{‏‏[‏فَجَعَلْنَاهُ‏]‏ هَبَاءً مَنْثُورًا‏}‏، قال‏:‏ شعاع الشمس إذا دخل في الكوَّة‏.‏ وكذا روي من غير هذا الوجه عن علي‏.‏ ورُوي مثله عن ابن عباس، ومجاهد، وعكرمة، وسعيد بن جُبَير، والسُّدِّي، والضحاك، وغيرهم‏.‏ وكذا قال الحسن البصري‏:‏ هو الشعاع في كوة أحدهم، ولو ذهب يقبض عليه لم يستطع‏.‏

وقال علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس‏:‏ ‏{‏هَبَاءً مَنْثُورًا‏}‏ قال‏:‏ هو الماء المهراق‏.‏

وقال أبو الأحوص، عن أبي إسحاق، عن الحارث، عن علي‏:‏ ‏{‏هَبَاءً مَنْثُورًا‏}‏ قال‏:‏ الهباء رَهْج الدواب‏.‏ ورُوي مثله عن ابن عباس أيضا، والضحاك، وقاله عبد الرحمن بن زيد بن أسلم‏.‏

وقال قتادة في قوله‏:‏ ‏{‏هَبَاءً مَنْثُورًا‏}‏ قال‏:‏ أما رأيت يَبِيس الشجر إذا ذرته الريح‏؟‏ فهو ذلك الورق‏.‏

وقال عبد الله بن وهب‏:‏ أخبرني عاصم بن حكيم، عن أبي سريع الطائي، عن يعلى بن عبيد قال‏:‏ وإن الهباء الرماد‏.‏

وحاصل هذه الأقوال التنبيهُ على مضمون الآية، وذلك أنهم عملوا أعمالا اعتقدوا أنها شيء، فلما عرضت على الملك الحكيم العدل الذي لا يجور ولا يظلم أحدا، إذا إنها لا شيء بالكلية‏.‏ وشبهت في ذلك بالشيء التافه الحقير المتفرق، الذي لا يقدر منه صاحبه على شيء بالكلية، كما قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏مَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ أَعْمَالُهُمْ كَرَمَادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ فِي يَوْمٍ عَاصِفٍ لا يَقْدِرُونَ مِمَّا كَسَبُوا عَلَى شَيْءٍ ذَلِكَ هُوَ الضَّلالُ الْبَعِيدُ‏}‏ ‏[‏إبراهيم‏:‏ 18‏]‏ وقال تعالى‏:‏ ‏{‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالأذَى كَالَّذِي يُنْفِقُ مَالَهُ رِئَاءَ النَّاسِ وَلا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوَانٍ عَلَيْهِ تُرَابٌ فَأَصَابَهُ وَابِلٌ فَتَرَكَهُ صَلْدًا لا يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِمَّا كَسَبُوا‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 264‏]‏ وقال تعالى‏:‏ ‏{‏وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا‏}‏ ‏[‏النور‏:‏ 39‏]‏ وتقدم الكلام على تفسير ذلك، ولله الحمد والمنة‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏أَصْحَابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا وَأَحْسَنُ مَقِيلا‏}‏ أي‏:‏ يوم القيامة ‏{‏لا يَسْتَوِي أَصْحَابُ النَّارِ وَأَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمُ الْفَائِزُونَ‏}‏ ‏[‏الحشر‏:‏ 20‏]‏؛ وذلك لأن أهل الجنة يصيرون إلى الدرجات العاليات، والغرفات الآمنات، فهم في مقام أمين، حسن المنظر، طيب المقام، ‏{‏خَالِدِينَ فِيهَا حَسُنَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقَامًا‏}‏ ‏[‏الفرقان‏:‏ 76‏]‏، وأهل النار يصيرون إلى الدركات السافلات، والحسرات المتتابعات، وأنواع العذاب والعقوبات، ‏{‏إِنَّهَا سَاءَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقَامًا‏}‏ ‏[‏الفرقان‏:‏ 66‏]‏ أي‏:‏ بئس المنزل منظرا وبئس المقيل مقاما؛ ولهذا قال‏:‏ ‏{‏أَصْحَابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا وَأَحْسَنُ مَقِيلا‏}‏ أي‏:‏ بما عملوه من الأعمال المتقبلة، نالوا ما نالوا، وصاروا إلى ما صاروا إليه، بخلاف أهل النار فإنه ليس لهم عمل واحد يقتضي لهم دخول الجنة والنجاة من النار، فَنَبَّه -تعالى -بحال السعداء على حال الأشقياء، وأنه لا خير عندهم بالكلية، فقال‏:‏ ‏{‏أَصْحَابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا وَأَحْسَنُ مَقِيلا‏}‏‏.‏

قال الضحاك‏:‏ عن ابن عباس‏:‏ إنما هي ضحوة، فيقيل أولياء الله على الأسرة مع الحور العين، ويَقيل أعداء الله مع الشياطين مقرنين‏.‏

وقال سعيد بن جبير‏:‏ يفرغ الله من الحساب نصف النهار، فيقيل أهل الجنة في الجنة، وأهل النار في النار، قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏أَصْحَابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا وَأَحْسَنُ مَقِيلا‏}‏‏.‏

وقال عكرمة‏:‏ إني لأعرف الساعة التي يدخل فيها أهل الجنة الجنة، وأهل النار النار‏:‏ هي الساعة التي تكون في الدنيا عند ارتفاع الضحى الأكبر، إذا انقلب الناس إلى أهليهم للقيلولة، فينصرف أهل النار إلى النار، وأما أهل ‏[‏الجنة فيُنطلق بهم إلى‏]‏ الجنة، فكانت قيلولتهم ‏[‏في الجنة‏]‏ وأطعموا كبد حوت، فأشبعهم ‏[‏ذلك‏]‏ كلهم، وذلك قوله‏:‏ ‏{‏أَصْحَابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا وَأَحْسَنُ مَقِيلا‏}‏‏.‏

وقال سفيان، عن مَيسَرة، عن المِنْهَال، عن أبي عبيدة، عن عبد الله بن مسعود، أنه قال‏:‏ لا ينتصف النهار حتى يقيل هؤلاء وهؤلاء ثم قرأ‏:‏ ‏{‏أَصْحَابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا وَأَحْسَنُ مَقِيلا‏}‏ وقرأ ‏{‏ثُمَّ إِنَّ مَرْجِعَهُمْ لإلَى الْجَحِيمِ‏}‏ ‏[‏الصافات‏:‏ 68‏]‏‏.‏

وقال العَوْفي، عن ابن عباس في قوله‏:‏ ‏{‏أَصْحَابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا وَأَحْسَنُ مَقِيلا‏}‏ قال‏:‏ قالوا في الغرف من الجنة، وكان حسابهم أن عُرضوا على ربهم عرضة واحدة، وذلك الحساب اليسير، وهو مثل قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا وَيَنْقَلِبُ إِلَى أَهْلِهِ مَسْرُورًا‏}‏ ‏[‏الانشقاق‏:‏ 7-9‏]‏‏.‏

وقال قتادة في قوله‏:‏ ‏{‏أَصْحَابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا وَأَحْسَنُ مَقِيلا‏}‏ أي‏:‏ مأوى ومنزلا قال قتادة‏:‏ وحَدّث صفوان بن مُحْرِز أنه قال‏:‏ يجاء يوم القيامة برجلين، أحدهما كان ملكا في الدنيا إلى الحمرة والبياض فيحاسب، فإذا عبدٌ، لم يعمل خيرا فيؤمر به إلى النار‏.‏ والآخر كان صاحب كساء في الدنيا، فيحاسب فيقول‏:‏ يا رب، ما أعطيتني من شيء فتحاسبني به‏.‏ فيقول‏:‏ صدق عبدي، فأرسلوه‏.‏ فيؤمر به إلى الجنة، ثم يتركان ما شاء الله‏.‏ ثم يدعى صاحب النار، فإذا هو مثل الحُمَمة السوداء، فيقال له‏:‏ كيف وجدت‏؟‏ فيقول‏:‏ شر مَقيل‏.‏ فيقال له‏:‏ عد ثم يُدعَى بصاحب الجنة، فإذا هو مثل القمر ليلة البدر، فيقال له‏:‏ كيف وجدت‏؟‏ فيقول‏:‏ رب، خير مَقيل‏.‏ فيقال له‏:‏ عد‏.‏ رواها ابن أبي حاتم كلها‏.‏

وقال ابن جرير‏:‏ حدثني يونس، أنبأنا ابن وهب، أنبأنا عمرو بن الحارث، أن سعيدًا الصوَّاف حدثه، أنه بلغه‏:‏ أن يوم القيامة يقصر على المؤمن حتى يكون كما بين العصر إلى غروب الشمس، وأنهم ليقيلون في رياض الجنة حتى يفرغ من الناس، وذلك قوله تعالى‏:‏ ‏{‏أَصْحَابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا وَأَحْسَنُ مَقِيلا‏}‏‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏25 - 29‏]‏

‏{‏وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السَّمَاءُ بِالْغَمَامِ وَنُزِّلَ الْمَلَائِكَةُ تَنْزِيلًا الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ لِلرَّحْمَنِ وَكَانَ يَوْمًا عَلَى الْكَافِرِينَ عَسِيرًا وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلًا يَا وَيْلَتَا لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلَانًا خَلِيلًا لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَاءَنِي وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِلْإِنْسَانِ خَذُولًا‏}‏

يخبر تعالى عن هَول يوم القيامة، وما يكون فيه من الأمور العظيمة، فمنها انشقاق السماء وتفطرها وانفراجها بالغمام، وهو ظُلَل النور العظيم الذي يبهر الأبصار، ونزول ملائكة السموات يومئذ، فيحيطون بالخلائق في مقام المحشر‏.‏ ثم يجيء الرب تبارك وتعالى لفصل القضاء‏.‏

قال مجاهد‏:‏ وهذا كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏هَلْ يَنْظُرُونَ إِلا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ وَالْمَلائِكَةُ وَقُضِيَ الأمْرُ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الأمُورُ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 210‏]‏‏.‏قال ابن أبي حاتم‏:‏ حدثنا محمد بن الحارث، حدثنا مُؤَمِّل، حدثنا حماد بن سلمة، عن علي بن زيد، عن يوسف بن مِهْرَان، عن ابن عباس، أنه قرأ هذه الآية‏:‏ ‏{‏وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السَّمَاءُ بِالْغَمَامِ وَنزلَ الْمَلائِكَةُ تَنزيلا‏}‏ قال ابن عباس‏:‏ يجمع الله الخلق يوم القيامة في صعيد واحد، الجن والإنس والبهائم والسباع والطير وجميع الخلق، فتنشق السماء الدنيا، فينزل أهلها -وهم أكثر من الجن والإنس ومن جميع الخلائق -فيحيطون بالجن والإنس وبجميع الخلق‏.‏ ثم تنشق السماء الثانية فينزل أهلها، وهم أكثر من أهل السماء الدنيا ومن الجن والإنس ومن جميع الخلق ‏[‏فيحيطون بالملائكة الذين نزلوا قبلهم والجن والإنس وجميع الخلق ‏]‏ ثم تنشق السماء الثالثة، فينزل أهلها، وهم أكثر من أهل السماء الثانية والسماء الدنيا ومن جميع الخلق، فيحيطون بالملائكة الذين نزلوا قبلهم، وبالجن والإنس وبجميع الخلق‏.‏ ثم كذلك كل سماء، حتى تنشق السماء السابعة، فينزل أهلها وهم أكثر ممن نزل قبلهم من أهل السموات ومن الجن والإنس، ومن جميع الخلق، فيحيطون بالملائكة الذين نزلوا قبلهم من أهل السموات، وبالجن والإنس وجميع الخلق، وينزل ربنا عز وجل في ظلل من الغمام، وحوله الكروبيون، وهم أكثر من أهل السموات السبع ومن الإنس والجن وجميع الخلق، لهم قرون كأكعب القنا، وهم تحت العرش، لهم زَجَل بالتسبيح والتهليل والتقديس لله عز وجل، ما بين أخمص قدم أحدهم إلى كعبه مسيرة خمسمائة عام، وما بين كعبه إلى ركبته مسيرة خمسمائة عام، وما بين ركبته إلى حُجْزَته مسيرة خمسمائة عام، وما بين حُجْزَته إلى ترقوته مسيرة خمسمائة عام، وما بين ترقوته إلى موضع القُرط مسيرة خمسمائة عام‏.‏ وما فوق ذلك مسيرة خمسمائة عام، وجهنم مجنبته هكذا رواه ابن أبي حاتم بهذا السياق‏.‏

وقال ابن جرير‏:‏ حدثنا القاسم، حدثنا الحسين، حدثني الحجاج، عن مبارك بن فضالة، عن علي بن زيد بن جُدْعَان، عن يوسف بن مِهْرَان، أنه سمع ابن عباس يقول‏:‏ إن هذه السماء إذا انشقت نزل منها من الملائكة أكثر من الجن والإنس، وهو يوم التلاق، يوم يلتقي أهل السماء وأهل الأرض، فيقول أهل الأرض‏:‏ جاء ربنا‏؟‏ فيقولون‏:‏ لم يجئ، وهو آت‏.‏ ثم تنشق السماء الثانية، ثم سماء سماء على قدر ذلك من التضعيف إلى السماء السابعة‏.‏ فينزل منها من الملائكة أكثر من ‏[‏جميع من‏]‏ نزل من السموات ومن الجن والإنس‏.‏ قال‏:‏ فتنزل الملائكة الكَرُوبيُون، ثم يأتي ربنا في حملة العرش الثمانية، بين كعب كل ملك وركبته مسيرة سبعين سنة، وبين فخذه ومنكبه مسيرة سبعين سنة‏.‏ قال‏:‏ وكل ملك منهم لم يتأمل وجه صاحبه، وكل ملك منهم واضع رأسه بين ثدييه يقول‏:‏ سبحان الملك القدوس‏.‏ وعلى رؤوسهم شيء مبسوط كأنه القَبَاء والعرش فوق ذلك‏.‏ثم وقف، فمداره على عليِّ بن زيد بن جُدْعان، وفيه ضعف، وفي سياقاته غالبا نكارة شديدة‏.‏ وقد ورد في حديث الصور المشهور قريب من هذا، والله أعلم‏.‏

وقد قال ‏[‏الله‏]‏ تعالى‏:‏ ‏{‏فَيَوْمَئِذٍ وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ وَانْشَقَّتِ السَّمَاءُ فَهِيَ يَوْمَئِذٍ وَاهِيَةٌ وَالْمَلَكُ عَلَى أَرْجَائِهَا وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمَانِيَةٌ‏}‏ ‏[‏الحاقة‏:‏ 15 -17‏]‏ قال شهر بن حَوْشَب‏:‏ حملة العرش ثمانية، أربعة منهم يقولون‏:‏ سبحانك اللهم وبحمدك، لك الحمد على حلمك بعد علمك‏.‏ وأربعة يقولون‏:‏ سبحانك اللهم وبحمدك، لك الحمد على عفوك بعد قدرتك، رواه ابن جرير عنه‏.‏

وقال أبو بكر بن عبد الله‏:‏ إذا نظر أهل الأرض إلى العرش يهبط عليهم من فوقهم، شخصت إليه أبصارهم، ورَجَفت كُلاهم في أجوافهم، وطارت قلوبهم من مَقَرّها من صدورهم إلى حناجرهم‏.‏

وقال ابن جرير‏:‏ حدثنا القاسم، حدثنا الحسين، حدثنا معتمر بن سليمان، عن عبد الجليل، عن أبي حازم، عن عبد الله بن عمرو قال‏:‏ يهبط الله حين يهبط وبينه وبين خلقه سبعون ألف حجاب، منها النور والظلمة، فيُصَوّت الماء في تلك الظلمة صوتا تنخلع منه القلوب‏.‏

وهذا موقوف على عبد الله بن عمرو من كلامه، ولعله من الزاملتين، والله أعلم‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ لِلرَّحْمَنِ وَكَانَ يَوْمًا عَلَى الْكَافِرِينَ عَسِيرًا‏}‏، كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ‏}‏ ‏[‏غافر‏:‏ 16‏]‏ وفي الصحيح‏:‏ ‏"‏إن الله يطوي السموات بيمينه، ويأخذ الأرضين بيده الأخرى، ثم يقول‏:‏ أنا الملك، أنا الديان، أين ملوك الأرض‏؟‏ أين الجبارون‏؟‏ أين المتكبرون‏"‏‏؟‏

وقوله‏:‏ ‏{‏وَكَانَ يَوْمًا عَلَى الْكَافِرِينَ عَسِيرًا‏}‏ أي‏:‏ شديدا صعبا؛ لأنه يوم عدل وقضاء فصل، كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏‏[‏فَإِذَا نُقِرَ فِي النَّاقُورِ‏]‏‏}‏ ‏"‏، ‏{‏فَذَلِكَ يَوْمَئِذٍ يَوْمٌ عَسِيرٌ عَلَى الْكَافِرِينَ غَيْرُ يَسِيرٍ‏}‏ ‏[‏المدثر‏:‏ 8 -10‏]‏، فهذا حال الكافرين في هذا اليوم‏.‏ وأما المؤمنون فكما قال تعالى‏:‏ ‏{‏لا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الأكْبَرُ وَتَتَلَقَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ هَذَا يَوْمُكُمُ الَّذِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ‏}‏ ‏[‏الأنبياء‏:‏ 103‏]‏‏.‏

وقال الإمام أحمد‏:‏ حدثنا حسن بن موسى، حدثنا ابن لَهيعة، حدثنا دَرَّاج، عن أبي الهيثم، عن أبي سعيد الخدري قال‏:‏ قيل‏:‏ يا رسول الله‏:‏ ‏{‏يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ‏}‏ ما أطول هذا اليوم‏؟‏ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏والذي نفسي بيده، إنه ليخفف على المؤمن حتى يكون أخف عليه من صلاة مكتوبة يصليها في الدنيا‏"‏‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلا‏}‏‏:‏ يخبر تعالى عن ندم الظالم الذي فارق طريق الرسول وما جاء به من عند الله من الحق المبين، الذي لا مرْية فيه، وسلك طريقا أخرى غير سبيل الرسول، فإذا كان يوم القيامة نَدمَ حيثُ لا ينفعه النَدَمُ، وعضّ على يديه حسرةً وأسفا‏.‏

وسواء كان سبب نزولها في عقبة بن أبي مُعَيط أو غيره من الأشقياء، فإنها عامة في كل ظالم، كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏يَوْمَ تُقَلَّبُ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ يَقُولُونَ يَا لَيْتَنَا أَطَعْنَا اللَّهَ وَأَطَعْنَا الرَّسُولا وَقَالُوا رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءَنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلا رَبَّنَا آتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنَ الْعَذَابِ وَالْعَنْهُمْ لَعْنًا كَبِيرًا‏}‏ ‏[‏الأحزاب‏:‏66 -68‏]‏ فكل يعني‏:‏ مَن صرفه عن الهدى، وعدل به إلى طريق الضلالة ‏[‏من دعاة الضلالة‏]‏، وسواء في ذلك أمية بن خلف، أو أخوه أبي بن خلف، أو غيرهما‏.‏

‏{‏لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ‏}‏ ‏[‏وهو القرآن‏]‏ ‏{‏بَعْدَ إِذْ جَاءَنِي‏}‏ أي‏:‏ بعد بلوغه إلي، قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِلإنْسَانِ خَذُولا‏}‏ أي‏:‏ يخذله عن الحق، ويصرفه عنه، ويستعمله في الباطل، ويدعوه إليه‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏30 - 31‏]‏

‏{‏وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآَنَ مَهْجُورًا وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ وَكَفَى بِرَبِّكَ هَادِيًا وَنَصِيرًا‏}‏

يقول تعالى مخبرا عن رسوله ونبيه محمد -صلوات الله وسلامه عليه دائما إلى يوم الدين -أنه قال‏:‏ ‏{‏يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُورًا‏}‏، وذلك أن المشركين كانوا لا يُصغُون للقرآن ولا يسمعونه ، كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ‏}‏ ‏[‏فصلت‏:‏ 26‏]‏ وكانوا إذا تلي عليهم القرآن أكثروا اللغط والكلام في غيره، حتى لا يسمعوه‏.‏ فهذا من هجرانه، وترك ‏[‏علمه وحفظه أيضا من هجرانه، وترك‏]‏ الإيمان به وتصديقه من هجرانه، وترك تدبره وتفهمه من هجرانه، وترك العمل به وامتثال أوامره واجتناب زواجره من هجرانه، والعدولُ عنه إلى غيره -من شعر أو قول أو غناء أو لهو أو كلام أو طريقة مأخوذة من غيره -من هجرانه، فنسأل الله الكريمَ المنانَ القادرَ على ما يشاء، أن يخلّصنا مما يُسْخطه، ويستعملنا فيما يرضيه، من حفظ كتابه وفهمه، والقيام بمقتضاه آناء الليل وأطرافَ النهار، على الوجه الذي يحبه ويرضاه، إنه كريم وهاب‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ‏}‏ أي‏:‏ كما حصل لك -يا محمد -في قومك من الذين هجروا القرآن، كذلك كان في الأمم الماضين؛ لأن الله جعل لكل نبي عدوا من المجرمين، يدعون الناس إلى ضلالهم وكفرهم، كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الإنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ وَلِتَصْغَى إِلَيْهِ أَفْئِدَةُ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ وَلِيَرْضَوْهُ وَلِيَقْتَرِفُوا مَا هُمْ مُقْتَرِفُونَ‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 112 -113‏]‏؛ ولهذا قال هاهنا‏:‏ ‏{‏وَكَفَى بِرَبِّكَ هَادِيًا وَنَصِيرًا‏}‏ أي‏:‏ لمن اتبع رسوله، وآمن بكتابه وصدقه واتبعه، فإن الله هاديه وناصره في الدنيا والآخرة‏.‏ وإنما قال‏:‏ ‏{‏هَادِيًا وَنَصِيرًا‏}‏ لأن المشركين كانوا يصدون الناس عن اتباع القرآن، لئلا يهتدي أحد به، ولتغلب طريقتهم طريقة القرآن؛ فلهذا قال‏:‏ ‏{‏وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ وَكَفَى بِرَبِّكَ هَادِيًا وَنَصِيرًا‏}‏‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏32 - 34‏]‏

‏{‏وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلَا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآَنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلًا وَلَا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلَّا جِئْنَاكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيرًا الَّذِينَ يُحْشَرُونَ عَلَى وُجُوهِهِمْ إِلَى جَهَنَّمَ أُولَئِكَ شَرٌّ مَكَانًا وَأَضَلُّ سَبِيلًا‏}‏

يقول تعالى مخبراً عن كثرة اعتراض الكفار وتعنتهم، وكلامهم فيما لا يعنيهم، حيث قالوا‏:‏ ‏{‏لَوْلا نزلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً‏}‏ أي‏:‏ هلا أنزل عليه هذا الكتاب الذي أوحي إليه جملة واحدة، كما نزلت الكتب قبله، كالتوراة والإنجيل والزبور، وغيرها من الكتب الإلهية‏.‏ فأجابهم الله عن ذلك بأنه إنما أنزل منجما في ثلاث وعشرين سنة بحسب الوقائع والحوادث، وما يحتاج إليه من الأحكام لتثبيت قلوب المؤمنين به كما قال‏:‏ ‏{‏وَقُرْآنًا فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ وَنزلْنَاهُ تَنزيلا‏}‏ ‏[‏الإسراء‏:‏ 106‏]‏؛ ولهذا قال‏:‏ ‏{‏لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلا‏}‏‏.‏ قال قتادة‏:‏ وبيناه تبيينا‏.‏ وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم‏:‏ وفسرناه تفسيرا‏.‏

‏{‏وَلا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ‏}‏ أي‏:‏ بحجة وشبهة ‏{‏إِلا جِئْنَاكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيرًا‏}‏ أي‏:‏ ولا يقولون قولا يعارضون به الحق، إلا أجبناهم بما هو الحق في نفس الأمر، وأبين وأوضح وأفصحُ من مقالتهم‏.‏

قال سعيد بن جبير، عن ابن عباس‏:‏ ‏{‏وَلا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ‏}‏ أي‏:‏ بما يلتمسون به عيب القرآن والرسول ‏{‏إِلا جِئْنَاكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيرًا‏}‏ أي‏:‏ إلا نزل جبريل مِنَ الله بجوابهم‏.‏

ثم في هذا اعتناء كبير؛ لشرف الرسول، صلوات الله وسلامه عليه ، حيث كان يأتيه الوحي من الله بالقرآن صباحا ومساء، ليلا ونهارا، سفرا وحضرا، فكل مرة كان يأتيه الملك بالقرآن كإنزال كتاب مما قبله من الكتب المتقدمة، فهذا المقام أعلى وأجلُّ، وأعظم مكانة من سائر إخوانه من الأنبياء، صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين‏.‏ فالقرآن أشرف كتاب أنزله الله، ومحمد، صلوات الله وسلامه عليه، أعظم نبي أرسله الله وقد جمع الله تعالى للقرآن الصفتين معا، ففي الملأ الأعلى أنزل جملة من اللوح المحفوظ إلى بيت العزة في سماء الدنيا ثم نزل بعد ذلك إلى الأرض منجما بحسب الوقائع والحوادث‏.‏

قال أبو عبد الرحمن النسائي‏:‏ أخبرنا أحمد بن سليمان، حدثنا يزيد بن هارون، أخبرنا داود، عن عِكْرِمة، عن ابن عباس قال‏:‏ أنزل القرآن جملة إلى سماء الدنيا في ليلة القدر، ثم نزل بعد ذلك في عشرين سنة، قال‏:‏ ‏{‏وَلا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلا جِئْنَاكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيرًا‏}‏، وقوله ‏{‏وَقُرْآنًا فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ وَنزلْنَاهُ تَنزيلا‏}‏ ‏[‏الإسراء‏:‏ 106‏]‏‏.‏

ثم قال تعالى مخبرا عن سوء حال الكفار في معادهم يوم القيامة وحشرهم إلى جهنم، في أسوأ الحالات وأقبح الصفات‏:‏ ‏{‏الَّذِينَ يُحْشَرُونَ عَلَى وُجُوهِهِمْ إِلَى جَهَنَّمَ أُولَئِكَ شَرٌّ مَكَانًا وَأَضَلُّ سَبِيلا‏}‏، وفي الصحيح، عن أنس‏:‏ أن رجلا قال‏:‏ يا رسول الله، كيف يحشر الكافر على وجهه يوم القيامة‏؟‏ فقال‏:‏ ‏"‏إن الذي أمشاه على رجليه قادر أن يُمشِيَه على وجهه يوم القيامة‏"‏ وهكذا قال مجاهد، والحسن، وقتادة، وغير واحد من المفسرين، ‏[‏والله أعلم‏]‏‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏35 - 40‏]‏

‏{‏وَلَقَدْ آَتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَجَعَلْنَا مَعَهُ أَخَاهُ هَارُونَ وَزِيرًا فَقُلْنَا اذْهَبَا إِلَى الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا فَدَمَّرْنَاهُمْ تَدْمِيرًا وَقَوْمَ نُوحٍ لَمَّا كَذَّبُوا الرُّسُلَ أَغْرَقْنَاهُمْ وَجَعَلْنَاهُمْ لِلنَّاسِ آَيَةً وَأَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ عَذَابًا أَلِيمًا وَعَادًا وَثَمُودَ وَأَصْحَابَ الرَّسِّ وَقُرُونًا بَيْنَ ذَلِكَ كَثِيرًا وَكُلًّا ضَرَبْنَا لَهُ الْأَمْثَالَ وَكُلًّا تَبَّرْنَا تَتْبِيرًا وَلَقَدْ أَتَوْا عَلَى الْقَرْيَةِ الَّتِي أُمْطِرَتْ مَطَرَ السَّوْءِ أَفَلَمْ يَكُونُوا يَرَوْنَهَا بَلْ كَانُوا لَا يَرْجُونَ نُشُورًا‏}‏

يقول تعالى متوعداً من كذّب رسولَه محمداً، صلوات الله وسلامه عليه، من مشركي قومه ومن خالفه، ومحذرهم من عقابه وأليم عذابه، مما أحله بالأمم الماضية المكذبين لرسله، فبدأ بذكر موسى، عليه السلام، وأنه ابتعثه وجعل معه أخاه هارون وزيرا، أي‏:‏ نبيًا مُوَازرا ومؤيداً وناصراً، فكذبهما فرعون وجنوده،فـ ‏{‏دَمَّرَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلِلْكَافِرِينَ أَمْثَالُهَا‏}‏ ‏[‏محمد‏:‏ 10‏]‏‏.‏، وكذلك فعلَ بقوم نوح حين كذّبوا رسوله نوحاً، عليه السلام، ومن كذب برسول فقد كذب بجميع الرسل؛ إذ لا فرق بين رسول ورسول، ولو فرض أن الله بعث إليهم كل رسول فإنهم كانوا يكذبونه؛ ولهذا قال‏:‏ ‏{‏وَقَوْمَ نُوحٍ لَمَّا كَذَّبُوا الرُّسُلَ‏}‏، ولم يبعث إليهم إلا نوح فقط، وقد لبث فيهم ألف سنة إلا خمسين عاماً، يدعوهم إلى الله، ويحذرهم نقَمه، فما آمن معه إلا قليل‏.‏ ولهذا أغرقهم الله جميعا، ولم يَبق منهم أحد، ولم يبق على وجه الأرض من بني آدم سوى أصحاب السفينة فقط‏.‏

‏{‏وَجَعَلْنَاهُمْ لِلنَّاسِ آيَةً‏}‏ أي‏:‏ عبرة يعتبرون بها، كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏إِنَّا لَمَّا طَغَى الْمَاءُ حَمَلْنَاكُمْ فِي الْجَارِيَةِ لِنَجْعَلَهَا لَكُمْ تَذْكِرَةً وَتَعِيَهَا أُذُنٌ وَاعِيَةٌ‏}‏ ‏[‏الحاقة‏:‏ 11 -12‏]‏‏.‏ أي‏:‏ وأبقينا لكم من السفن ما تركبون في لُجَج البحار، لتذكروا نعمة الله عليكم في إنجائكم من الغرق، وجَعْلكم من ذرّية مَن آمن به وصَدّق أمره‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏وَعَادًا وَثَمُودَ‏}‏ قد تقدم الكلام على قصتيهما في غير ما سورة، منها في سورة ‏"‏الأعراف‏"‏ بما أغنى عن الإعادة‏.‏

وأما أصحاب الرس فقال ابن جُرَيْج، عن ابن عباس‏:‏ هم أهل قرية من قرى ثمود‏.‏

وقال ابن جريج‏:‏ قال عكرمة‏:‏ أصحاب الرَسّ بفَلَج وهم أصحاب يس‏.‏ وقال قتادة‏:‏ فَلَج من قرى اليمامة‏.‏

وقال ابن أبي حاتم‏:‏ حدثنا أحمد بن عمرو بن أبي عاصم ‏[‏النبيل‏]‏ ، حدثنا الضحاك بن مَخْلَد أبو عاصم، حدثنا شبيب بن بشر، حدثنا عكرمة عن ابن عباس في قوله‏:‏ ‏{‏وَأَصْحَابَ الرَّسِّ‏}‏ قال‏:‏ بئر بأذربيجان‏.‏

وقال سفيان الثوري عن أبي بُكَيْر ، عن عكرمة‏:‏ الرس بئر رَسوا فيها نبيهم‏.‏ أي‏:‏ دفنوه بها‏.‏

وقال محمد بن إسحاق، عن محمد بن كعب ‏[‏القرظي‏]‏ قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏إن أول الناس يدخل الجنة يوم القيامة العبد الأسود، وذلك أن الله -تعالى وتبارك -بعث نبيا إلى أهل قرية، فلم يؤمن به من أهلها إلا ذلك العبد الأسود، ثم إن أهل القرية عدَوا على النبي، فحفروا له بئرا فألقوه فيها، ثم أطبقوا عليه بحجر ضخم قال‏:‏ ‏"‏فكان ذلك العبد يذهب فيحتطب على ظهره، ثم يأتي بحطبه فيبيعه، ويشتري به طعاما وشرابا، ثم يأتي به إلى تلك البئر، فيرفع تلك الصخرة، ويعينه الله عليها، فيدلي إليه طعامه وشرابه، ثم يردها كما كانت‏"‏‏.‏ قال‏:‏ ‏"‏فكان ذلك ما شاء الله أن يكون، ثم إنه ذهب يوماً يحتطب كما كان يصنع، فجمع حطبه وحَزم وفرغ منها فلما أراد أن يحتملها وجد سنة، فاضطجع فنام، فضرب الله على أذنه سبع سنين نائماً، ثم إنه هَبّ فتمطى، فتحول لشقه الآخر فاضطجع، فضرب الله على أذنه سبع سنين أخرى، ثم إنه هب واحتمل حُزْمَته ولا يحسبُ إلا أنه نام ساعة من نهار فجاء إلى القرية فباع حزمته، ثم اشترى طعاما وشرابا كما كان يصنع‏.‏ ثم ذهب إلى الحفيرة في موضعها الذي كانت فيه، فالتمسه فلم يجده‏.‏ وكان قد بدا لقومه فيه بَداء، فاستخرجوه وآمنوا به وصدقوه‏"‏‏.‏ قال‏:‏ فكان نبيهم يسألهم عن ذلك الأسود‏:‏ ما فعل‏؟‏ فيقولون له‏:‏ لا ندري‏.‏ حتى قبض الله النبي، وَأهبّ الأسودَ من نومته بعد ذلك‏"‏‏.‏ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏إن ذلك الأسودَ لأولُ من يدخل الجنة‏"‏‏.‏

وهكذا رواه ابن جرير عن ابن حميد، عن سلمة عن ابن إسحاق، عن محمد بن كعب مرسلا‏.‏ وفيه غرابة ونَكارَةٌ، ولعل فيه إدْرَاجاً، والله أعلم‏.‏ وأما ابن جرير فقال‏:‏ لا يجوز أن يحمل هؤلاء على أنهم أصحاب الرس الذين ذكروا في القرآن؛ لأن الله أخبر عنهم أنه أهلكهم، وهؤلاء قد بدا لهم فآمنوا بنبيهم، اللهم إلا أن يكون حدث لهم أحداث، آمنوا بالنبي بعد هلاك آبائهم، والله أعلم‏.‏

واختار ابن جرير أن المراد بأصحاب الرس هم أصحاب الأخدود، الذين ذكروا في سورة البروج، فالله أعلم‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏وَقُرُونًا بَيْنَ ذَلِكَ كَثِيرًا‏}‏ أي‏:‏ وأمما بين أضعاف مَنْ ذُكر أهلكناهم كثيرة؛ ولهذا قال‏:‏ ‏{‏وَكُلا ضَرَبْنَا لَهُ الأمْثَالَ‏}‏ أي‏:‏ بينا لهم الحجج، ووضَّحنا لهم الأدلة -كما قال قتادة‏:‏ أزحنا عنهم الأعذار -‏{‏وَكُلا تَبَّرْنَا تَتْبِيرًا‏}‏ أي‏:‏ أهلكنا إهلاكاً، كقوله‏:‏ ‏{‏وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِنَ الْقُرُونِ مِنْ بَعْدِ نُوحٍ‏}‏ ‏[‏الإسراء‏:‏ 17‏]‏‏.‏

والقرن‏:‏ هو الأمة من الناس، كقوله‏:‏ ‏{‏ثُمَّ أَنْشَأْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ قُرُونًا آخَرِينَ‏}‏ ‏[‏المؤمنون‏:‏ 31‏]‏ وحدَّه بعضهم بمائة وعشرين سنة‏.‏ وقيل‏:‏ بمائة سنة‏.‏ وقيل‏:‏ بثمانين سنة‏.‏ وقيل‏:‏ أربعين‏.‏ وقيل غير ذلك‏.‏ والأظهر‏:‏ أن القرن هم الأمة المتعاصرون في الزمن الواحد؛ فإذا ذهبوا وخلفهم جيل آخر فهم قرن ثان، كما ثبت في الصحيحين عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال‏:‏ ‏"‏خير القرون قرني، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم‏"‏ الحديث‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏وَلَقَدْ أَتَوْا عَلَى الْقَرْيَةِ الَّتِي أُمْطِرَتْ مَطَرَ السَّوْءِ‏}‏ يعني‏:‏ قوم لوط، وهي سدوم ومعاملتها التي أهلكها الله بالقلب، وبالمطر الحجارة من سجيل، كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ مَطَرًا فَسَاءَ مَطَرُ الْمُنْذَرِينَ‏}‏ ‏[‏الشعراء‏:‏ 173‏]‏وقال ‏{‏وَإِنَّكُمْ لَتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ مُصْبِحِينَ وَبِاللَّيْلِ أَفَلا تَعْقِلُونَ‏}‏ ‏[‏الصافات‏:‏ 137 -138‏]‏ وقال تعالى‏:‏ ‏{‏وَإِنَّهَا لَبِسَبِيلٍ مُقِيمٍ‏}‏ ‏[‏الحجر‏:‏76‏]‏ وقال ‏{‏وَإِنَّهُمَا لَبِإِمَامٍ مُبِينٍ‏}‏ ‏[‏الحجر‏:‏ 79‏]‏؛ ولهذا قال‏:‏ ‏{‏أَفَلَمْ يَكُونُوا يَرَوْنَهَا‏}‏ أي‏:‏ فيعتبروا بما حَلّ بأهلها من العذاب والنكال بسبب تكذيبهم بالرسول ومخالفتهم أوامر الله‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏بَلْ كَانُوا لا يَرْجُونَ نُشُورًا‏}‏ يعني‏:‏ المارين بها من الكفار لا يعتبرون لأنهم لا يرجون نشوراً، أي‏:‏ معادًا يوم القيامة‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏41 - 44‏]‏

‏{‏وَإِذَا رَأَوْكَ إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلَّا هُزُوًا أَهَذَا الَّذِي بَعَثَ اللَّهُ رَسُولًا إِنْ كَادَ لَيُضِلُّنَا عَنْ آَلِهَتِنَا لَوْلَا أَنْ صَبَرْنَا عَلَيْهَا وَسَوْفَ يَعْلَمُونَ حِينَ يَرَوْنَ الْعَذَابَ مَنْ أَضَلُّ سَبِيلًا أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ أَفَأَنْتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلًا أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا‏}‏

يخبر تعالى عن استهزاء المشركين بالرسول، صلوات الله وسلامه عليه، إذا رأوه، كما قال‏:‏ ‏{‏وَإِذَا رَآكَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلا هُزُوًا أَهَذَا الَّذِي يَذْكُرُ آلِهَتَكُمْ‏}‏ ‏[‏الأنبياء‏:‏ 36‏]‏ يعنونه بالعيب والنقص، وقال هاهنا‏:‏ ‏{‏وَإِذَا رَأَوْكَ إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلا هُزُوًا أَهَذَا الَّذِي بَعَثَ اللَّهُ رَسُولا‏}‏‏؟‏ أي‏:‏ على سبيل التنقص والازدراء -قبَّحهم الله -كما قال‏:‏ ‏{‏وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَأَمْلَيْتُ لِلَّذِينَ كَفَرُوا ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كَانَ عِقَابِ‏}‏ ‏[‏الرعد‏:‏ 32‏]‏‏.‏

وقولهم‏:‏ ‏{‏إِنْ كَادَ لَيُضِلُّنَا عَنْ آلِهَتِنَا لَوْلا أَنْ صَبَرْنَا عَلَيْهَا‏}‏ يعنون‏:‏ أنه كاد يثنيهم عن عبادة أصنامهم، لولا أن صبروا وتجلدوا واستمروا على عبادتها‏.‏ قال الله تعالى متوعدا لهم ومتهددا‏:‏ ‏{‏وَسَوْفَ يَعْلَمُونَ حِينَ يَرَوْنَ الْعَذَابَ مَنْ أَضَلُّ سَبِيلا‏}‏‏.‏

ثم قال تعالى لنبيه، منبهًا له أن من كتب الله عليه الشقاوة والضلال، فإنه لا يهديه أحد إلا الله‏.‏

‏{‏أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ‏}‏ أي‏:‏ مهما استحسن من شيء ورآه حسناً في هوى نفسه، كان دينَه ومذهبَه، كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَنًا فَإِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ‏}‏ ‏[‏فاطر‏:‏8‏]‏؛ ولهذا قال هاهنا‏:‏ ‏{‏أَفَأَنْتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلا‏}‏‏.‏ قال ابن عباس‏:‏ كان الرجل في الجاهلية يعبد الحجر الأبيض زماناً، فإذا رأى غيره أحسن منه عبد الثاني وترك الأول‏.‏

ثم قال‏:‏ ‏{‏أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلا كَالأنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلا‏}‏ أي‏:‏ أسوأ حالا من الأنعام السارحة، فإن تلك تعقل ما خلقت له، وهؤلاء خلقوا لعبادة الله وحده لا شريك له، وهم يعبدون غيره ويشركون به، مع قيام الحجة عليهم، وإرسال الرسل إليهم‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏45 - 47‏]‏

‏{‏أَلَمْ تَرَ إِلَى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ وَلَوْ شَاءَ لَجَعَلَهُ سَاكِنًا ثُمَّ جَعَلْنَا الشَّمْسَ عَلَيْهِ دَلِيلا ثُمَّ قَبَضْنَاهُ إِلَيْنَا قَبْضًا يَسِيرًا وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِبَاسًا وَالنَّوْمَ سُبَاتًا وَجَعَلَ النَّهَارَ نُشُورًا‏}‏

من هاهنا شرع تعالى في بيان الأدلة الدالة على وجوده، وقدرته التامة على خلق الأشياء المختلفة والمتضادة، فقال‏:‏ ‏{‏أَلَمْ تَرَ إِلَى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ‏}‏‏؟‏ قال ابن عباس، وابن عمر، وأبو

العالية، وأبو مالك، ومسروق، ومجاهد، وسعيد بن جبير، وإبراهيم النَّخَعِي، والضحاك، والحسن البصري، وقتادة، والسدي، وغيرهم‏:‏ هو ما بين طلوع الفجر إلى طلوع الشمس‏.‏ ‏{‏وَلَوْ شَاءَ لَجَعَلَهُ سَاكِنًا‏}‏ أي‏:‏ دائما لا يزول، كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ اللَّيْلَ سَرْمَدًا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ‏}‏، ‏{‏قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ النَّهَارَ سَرْمَدًا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ‏}‏ ‏[‏القصص‏:‏ 71 -72‏]‏‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏ثُمَّ جَعَلْنَا الشَّمْسَ عَلَيْهِ دَلِيلا‏}‏ أي‏:‏ لولا أن الشمس تطلع عليه، لما عرف، فإن الضد لا يعرف إلا بضده‏.‏

وقال قتادة، والسّدي‏:‏ دليلا يتلوه ويتبعه حتى يأتي عليه كله‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏ثُمَّ قَبَضْنَاهُ إِلَيْنَا قَبْضًا يَسِيرًا‏}‏ أي‏:‏ الظل، وقيل‏:‏ الشمس‏.‏ ‏{‏يسيرا‏}‏ أي‏:‏ سهلا‏.‏ قال ابن عباس‏:‏ سريعاً‏.‏ وقال مجاهد‏:‏ خفياً‏.‏ وقال السّدي؛ قبضاً خفَياً، حتى لا يبقى في الأرض ظل إلا تحت سقف أو تحت شجرة، وقد أظلت الشمس ما فوقه‏.‏

وقال أيوب بن موسى‏:‏ ‏{‏ثُمَّ قَبَضْنَاهُ إِلَيْنَا قَبْضًا يَسِيرًا‏}‏ أي‏:‏ قليلا قليلا‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِبَاسًا‏}‏ أي‏:‏ يلبس الوجود ويُغَشيه ، كما قال‏:‏ ‏[‏‏{‏وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى‏}‏ ‏[‏الليل‏:‏ 1‏]‏ وقال‏]‏ ‏{‏وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَاهَا‏}‏ ‏[‏الشمس‏:‏ 4‏]‏‏.‏

‏{‏وَالنَّوْمَ سُبَاتًا‏}‏ أي‏:‏ قَطْعَا للحركة لراحة الأبدان، فإن الأعضاء والجوارح تكل من كثرة الحركة في الانتشار بالنهار في المعايش، فإذا جاء الليل وسكن سكنت الحركات، فاستراحت فحصل النوم الذي فيه راحة البدن والروح معا‏.‏

‏{‏وَجَعَلَ النَّهَارَ نُشُورًا‏}‏ أي‏:‏ ينتشر الناسُ فيه لمعايشهم ومكاسبهم وأسبابهم، كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏وَمِنْ رَحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ‏}‏ ‏[‏القصص‏:‏ 73‏]‏‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏48 - 50‏]‏

‏{‏وَهُوَ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُورًا لِنُحْيِيَ بِهِ بَلْدَةً مَيْتًا وَنُسْقِيَهُ مِمَّا خَلَقْنَا أَنْعَامًا وَأَنَاسِيَّ كَثِيرًا وَلَقَدْ صَرَّفْنَاهُ بَيْنَهُمْ لِيَذَّكَّرُوا فَأَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلَّا كُفُورًا‏}‏

وهذا أيضا من قدرته التامة وسلطانه العظيم، وهو أنه تعالى يرسل الرياح مبشرات، أي‏:‏ بمجيء السحاب بعدها، والرياح أنواع، في صفات كثيرة من التسخير، فمنها ما يثير السحاب، ومنها ما يحمله، ومنها ما يسوقه، ومنها ما يكون بين يدي السحاب مبشِّرا، ومنها ما يكون قبل ذلك يَقُمّ الأرض، ومنها ما يلقح السحاب ليمطر؛ ولهذا قال‏:‏ ‏{‏وَأَنزلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُورًا‏}‏ أي‏:‏ آلة يتطهر بها، كالسَّحُور والوقود وما جرى مجراه‏.‏ فهذا أصح ما يقال في ذلك‏.‏ وأما من قال‏:‏ إنه فعول بمعنى فاعل، أو‏:‏ إنه مبني للمبالغة أو التعدي، فعلى كل منهما إشكالات من حيث اللغة والحكم، ليس هذا موضع بسطها، والله أعلم‏.‏

وقال ابن أبي حاتم‏:‏ حدثنا أبي، حدثنا عمر بن حفص بن غياث، حدثنا أبي، عن أبي جعفر الرازي، حدثني حُمَيد الطويل، عن ثابت البناني قال‏:‏ دخلت مع أبي العالية في يوم مطير، وطرق البصرة قذرة، فصلى، فقلت له، فقال‏:‏ ‏{‏وَأَنزلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُورًا‏}‏ قال‏:‏ طهره ماء السماء‏.‏

وقال أيضا‏:‏ حدثنا أبي، حدثنا أبو سلمة، حدثنا وُهَيب عن داود، عن سعيد بن المسيب في هذه الآية‏:‏ ‏{‏وَأَنزلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُورًا‏}‏ ‏[‏قال‏:‏ أنزله الله ماءً طاهراً‏]‏ لا ينجسه شيء‏.‏

وعن أبي سعيد قال‏:‏ قيل‏:‏ يا رسول الله، أنتوضأ من بئر بضاعة‏؟‏ -وهي بئر يُلقَى فيها النَّتَن، ولحوم الكلاب -فقال‏:‏ ‏"‏إن الماء طهور لا ينجسه شيء‏"‏ رواه الشافعي، وأحمد وصححه، وأبو داود، والترمذي وحسنه، والنسائي‏.‏

وقال ابن أبي حاتم‏:‏ حدثنا أبي، حدثنا أبو الأشعث، حدثنا معتمر، سمعت أبي يحدث عن سَيَّار، عن خالد بن يزيد، قال‏:‏ كان عند عبد الملك بن مروان، فذكروا الماء، فقال خالد بن يزيد‏:‏ منه من السماء، ومنه ما يسقيه الغيم من البحر فَيُعْذِبه الرعد والبرق‏.‏ فأما ما كان من البحر، فلا يكون له نبات، فأما النبات فمما كان من السماء‏.‏

وروي عن عكرمة قال‏:‏ ما أنزل الله من السماء قطرة إلا أنبت بها في الأرض عشبة أو في البحر لؤلؤة‏.‏ وقال غيره‏:‏ في البر بُر، وفي البحر دُرّ‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏لِنُحْيِيَ بِهِ بَلْدَةً مَيْتًا‏}‏ أي‏:‏ أرضا قد طال انتظارها للغيث، فهي هامدة لا نبات فيها ولا شيء‏.‏ فلما جاءها الحيا عاشت واكتست رباها أنواع الأزاهير والألوان، كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏فَإِذَا أَنزلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ‏}‏ ‏[‏الحج‏:‏ 5‏]‏‏.‏

‏{‏وَنُسْقِيَهُ مِمَّا خَلَقْنَا أَنْعَامًا وَأَنَاسِيَّ كَثِيرًا‏}‏ أي‏:‏ وليشرب منه الحيوان من أنعام وأناسي محتاجين إليه غاية الحاجة، لشربهم وزروعهم وثمارهم، كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏وَهُوَ الَّذِي يُنزلُ الْغَيْثَ مِنْ بَعْدِ مَا قَنَطُوا وَيَنْشُرُ رَحْمَتَهُ وَهُوَ الْوَلِيُّ الْحَمِيدُ‏}‏ ‏[‏الشورى‏:‏ 28‏]‏ وقال تعالى‏:‏ ‏{‏فَانْظُرْ إِلَى آثَارِ رَحْمَةِ اللَّهِ كَيْفَ يُحْيِي الأرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ ذَلِكَ لَمُحْيِي الْمَوْتَى وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ‏}‏ ‏[‏الروم‏:‏ 50‏]‏‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏وَلَقَدْ صَرَّفْنَاهُ بَيْنَهُمْ لِيَذَّكَّرُوا‏}‏ أي‏:‏ أمطرنا هذه الأرض دون هذه، وسقنا السحاب فمر على الأرض وتعداها وجاوزها إلى الأرض الأخرى، ‏[‏فأمطرتها وكفتها فجعلتها عذقا، والتي وراءها‏]‏ لم ينزل فيها قطرة من ماء، وله في ذلك الحجة البالغة والحكمة القاطعة‏.‏

قال ابن مسعود وابن عباس‏:‏ ليس عام بأكثر مطرًا من عام، ولكن الله يصرفه كيف يشاء، ثم قرأ هذه الآية‏:‏ ‏{‏وَلَقَدْ صَرَّفْنَاهُ بَيْنَهُمْ لِيَذَّكَّرُوا فَأَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلا كُفُورًا‏}‏‏.‏

أي‏:‏ ليذكروا بإحياء الله الأرض الميتة أنه قادر على إحياء الأموات‏.‏ والعظام الرفات‏.‏ أو‏:‏ ليذكر من منع القَطْر أنما أصابه ذلك بذنب أصابه، فيقلع عما هو فيه‏.‏

وقال عُمَر مولى غُفْرَة‏:‏ كان جبريل، عليه السلام، في موضع الجنائز، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏يا جبريل، إني أحب أن أعلم أمْرَ السحاب‏؟‏‏"‏ قال‏:‏ فقال جبريل‏:‏ يا نبي الله، هذا ملك السحاب فسله‏.‏ فقال‏:‏ تأتينا صَكاك مُخَتَّمة‏:‏ اسق بلاد كذا وكذا، كذا وكذا قطرة‏.‏ رواه ابن حاتم، وهو حديث مرسل‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏فَأَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلا كُفُورًا‏}‏‏:‏ قال عكرمة‏:‏ يعني‏:‏ الذين يقولون‏:‏ مطرنا بنَوء كذا وكذا‏.‏

وهذا الذي قاله عكرمة كما صح في الحديث المخرج في صحيح مسلم، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال لأصحابه يوماً، على أثر سماء أصابتهم من الليل‏:‏ ‏"‏أتدرون ماذا قال ربكم‏"‏ قالوا‏:‏ الله ورسوله أعلم‏.‏ قال‏:‏ ‏"‏قال‏:‏ أصبح من عبادي مؤمن بي وكافر، فأما من قال‏:‏ مطرنا بفضل الله ورحمته فذاك مؤمن بي كافر بالكوكب‏.‏ وأما من قال‏:‏ مطرنا بنوء كذا وكذا، فذاك كافر بي، مؤمن بالكوكب‏"‏‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏51 - 54‏]‏

‏{‏وَلَوْ شِئْنَا لَبَعَثْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ نَذِيرًا فَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَجَاهِدْهُمْ بِهِ جِهَادًا كَبِيرًا وَهُوَ الَّذِي مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ هَذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ وَهَذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ وَجَعَلَ بَيْنَهُمَا بَرْزَخًا وَحِجْرًا مَحْجُورًا وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ مِنَ الْمَاءِ بَشَرًا فَجَعَلَهُ نَسَبًا وَصِهْرًا وَكَانَ رَبُّكَ قَدِيرًا‏}‏

يقول تعالى‏:‏ ‏{‏وَلَوْ شِئْنَا لَبَعَثْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ نَذِيرًا‏}‏ يدعوهم إلى الله عز وجل، ولكنا خصصناك -يا محمد -بالبعثة إلى جميع أهل الأرض، وأمرناك أن تبلغ الناس هذا القرآن، ‏{‏لأنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 19‏]‏، ‏{‏وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الأحْزَابِ فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ‏}‏ ‏[‏هود‏:‏ 17‏]‏‏{‏وَلِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 92‏]‏، ‏{‏قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 158‏]‏‏.‏ وفي الصحيحين‏:‏ ‏"‏بعثت إلى الأحمر والأسود‏"‏ وفيهما‏:‏ ‏"‏وكان النبي يبعث إلى قومه خاصة وبعثت إلى الناس عامة‏"‏؛ ولهذا قال‏:‏ ‏{‏فَلا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَجَاهِدْهُمْ بِهِ‏}‏ يعني‏:‏ بالقرآن، قاله ابن عباس ‏{‏جِهَادًا كَبِيرًا‏}‏، كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 73،التحريم‏:‏ 9‏]‏‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏وَهُوَ الَّذِي مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ هَذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ وَهَذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ‏}‏ أي‏:‏ خلق الماءين‏:‏ الحلو والملح، فالحلو كالأنهار والعيون والآبار، وهذا هو البحر الحلو الفرات العذب الزلال‏.‏ قاله ابن جريج، واختاره ابن جرير، وهذا الذي لا شك فيه، فإنه ليس في الوجود بحر ساكن وهو عذب فرات‏.‏ والله سبحانه إنما أخبر بالواقع لينبه العباد على نعمه عليهم ليشكروه، فالبحر العذب هو هذا السارح بين الناس، فرقه تعالى بين خلقه لاحتياجهم إليه أنهارًا وعيونًا في كل أرض بحسب حاجتهم وكفايتهم لأنفسهم وأراضيهم‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏وَهَذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ‏}‏ أي‏:‏ مالح مُرّ زعاق لا يستساغ، وذلك كالبحار المعروفة في المشارق والمغارب‏:‏ البحر المحيط وما يتصل به من الزقاق وبحر القلزم، وبحر اليمن، وبحر البصرة، وبحر فارس وبحر الصين والهند وبحر الروم وبحر الخزر، وما شاكلها وشابهها من البحار الساكنة التي لا تجري، ولكن تتموج وتضطرب وتغتلم في زمن الشتاء وشدة الرياح، ومنها ما فيه مد وجَزْر، ففي أول كل شهر يحصل منها مد وفيض ، فإذا شرع الشهر في النقصان جَزَرت، حتى ترجع إلى غايتها الأولى، فإذا استهل الهلال من الشهر الآخر شرعت في المد إلى الليلة الرابعة عشرة ثم تشرع في النقص، فأجرى الله سبحانه وتعالى -وله القدرة التامة -العادة بذلك‏.‏ فكل هذه البحار الساكنة خلقها الله سبحانه وتعالى مالحة الماء، لئلا يحصل بسببها نتن الهواء، فيفسد الوجود بذلك، ولئلا تجوى الأرض بما يموت فيها من الحيوان‏.‏ ولما كان ماؤها ملحا كان هواؤها صحيحا وميتتها طيبة؛ ولهذا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد سئل عن ماء البحر‏:‏ أنتوضأ به‏؟‏ فقال‏:‏ ‏"‏هو الطهور ماؤه، الحل ميتته‏"‏‏.‏ رواه الأئمة‏:‏ مالك، والشافعي، وأحمد، وأهل السنن بإسناد جيد‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏وَجَعَلَ بَيْنَهُمَا بَرْزَخًا وَحِجْرًا‏}‏ أي‏:‏ بين العذب والمالح ‏{‏برزخا‏}‏ أي‏:‏ حاجزاً، وهو اليَبَس من الأرض، ‏{‏وَحِجْرًا مَحْجُورًا‏}‏ أي‏:‏ مانعاً أن يصل أحدهما إلى الآخر، كما قال‏:‏ ‏{‏مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيَانِ بَيْنَهُمَا بَرْزَخٌ لا يَبْغِيَانِ فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ‏}‏ ‏[‏الرحمن‏:‏ 19 -21‏]‏، وقال تعالى‏:‏ ‏{‏أَمَّنْ جَعَلَ الأرْضَ قَرَارًا وَجَعَلَ خِلالَهَا أَنْهَارًا وَجَعَلَ لَهَا رَوَاسِيَ وَجَعَلَ بَيْنَ الْبَحْرَيْنِ حَاجِزًا أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ‏}‏ ‏[‏النمل‏:‏ 61‏]‏‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ مِنَ الْمَاءِ بَشَرًا فَجَعَلَهُ نَسَبًا وَصِهْرًا وَكَانَ رَبُّكَ قَدِيرًا‏}‏ أي‏:‏ خلق الإنسان من نطفة ضعيفة، فسواه وعَدّله، وجعله كامل الخلقة، ذكراً أو أنثى، كما يشاء، ‏{‏فَجَعَلَهُ نَسَبًا وَصِهْرًا‏}‏، فهو في ابتداء أمره ولد نسيب، ثم يتزوج فيصير صهراً، ثم يصير له أصهار وأختان وقرابات‏.‏ وكل ذلك من ماء مهين؛ ولهذا قال‏:‏ ‏{‏وَكَانَ رَبُّكَ قَدِيرًا‏}‏‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏56 - 60‏]‏

‏{‏وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُهُمْ وَلَا يَضُرُّهُمْ وَكَانَ الْكَافِرُ عَلَى رَبِّهِ ظَهِيرًا وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا مُبَشِّرًا وَنَذِيرًا قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِلَّا مَنْ شَاءَ أَنْ يَتَّخِذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلًا وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لَا يَمُوتُ وَسَبِّحْ بِحَمْدِهِ وَكَفَى بِهِ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيرًا الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ الرَّحْمَنُ فَاسْأَلْ بِهِ خَبِيرًا وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اسْجُدُوا لِلرَّحْمَنِ قَالُوا وَمَا الرَّحْمَنُ أَنَسْجُدُ لِمَا تَأْمُرُنَا وَزَادَهُمْ نُفُورًا

‏{‏وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلا مُبَشِّرًا وَنَذِيرًا قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِلا مَنْ شَاءَ أَنْ يَتَّخِذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلا وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لا يَمُوتُ وَسَبِّحْ بِحَمْدِهِ وَكَفَى بِهِ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيرًا الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ الرَّحْمَنُ فَاسْأَلْ بِهِ خَبِيرًا وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اسْجُدُوا لِلرَّحْمَنِ قَالُوا وَمَا الرَّحْمَنُ أَنَسْجُدُ لِمَا تَأْمُرُنَا وَزَادَهُمْ نُفُورًا‏}‏

يخبر تعالى عن جهل المشركين في عبادتهم غير الله من الأصنام، التي لا تملك لهم نفعاً ولا ضرا، بلا دليل قادهم إلى ذلك، ولا حجة أدتهم إليه، بل بمجرد الآراء، والتشهي والأهواء، فهم يوالونهم ويقاتلون في سبيلهم، ويعادون الله ورسوله ‏[‏والمؤمنون‏]‏ فيهم؛ ولهذا قال‏:‏ ‏{‏وَكَانَ الْكَافِرُ عَلَى رَبِّهِ ظَهِيرًا‏}‏ أي‏:‏ عونا في سبيل الشيطان على حزب الله، وحزب الله هم الغالبون، كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لَعَلَّهُمْ يُنْصَرُونَ لا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَهُمْ وَهُمْ لَهُمْ جُنْدٌ مُحْضَرُونَ‏}‏ ‏[‏يس‏:‏ 74 -75‏]‏ أي‏:‏ آلهتهم التي اتخذوها من دون الله لا تملك لهم نصرا، وهؤلاء الجهلة للأصنام جند محضرون يقاتلون عنهم، ويَذبُّون عن حَوْزتهم، ولكن العاقبة والنصرة لله ولرسوله في الدنيا والآخرة‏.‏

قال مجاهد‏:‏ ‏{‏وَكَانَ الْكَافِرُ عَلَى رَبِّهِ ظَهِيرًا‏}‏ قال‏:‏ يظاهر الشيطان على معصية الله، يعينه‏.‏

وقال سعيد بن جبير‏:‏ ‏{‏وَكَانَ الْكَافِرُ عَلَى رَبِّهِ ظَهِيرًا‏}‏ يقول‏:‏ عوناً للشيطان على ربه بالعداوة والشرك‏.‏

وقال زيد بن أسلم‏:‏ ‏{‏وَكَانَ الْكَافِرُ عَلَى رَبِّهِ ظَهِيرًا‏}‏ قال‏:‏ مواليا‏.‏

ثم قال تعالى لرسوله، صلوات الله وسلامه عليه‏:‏ ‏{‏وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلا مُبَشِّرًا وَنَذِيرًا‏}‏ أي‏:‏ بشيراً للمؤمنين ونذيراً للكافرين، مبشرا بالجنة لمن أطاع الله، ونذيراً بين يدي عذاب شديد لمن خالف أمر الله‏.‏

‏{‏قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ‏}‏ أي‏:‏ على هذا البلاغ وهذا الإنذار من أجرة أطلبها من أموالكم، وإنما أفعل ذلك ابتغاء وجه الله، ‏{‏لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ‏}‏ ‏[‏التكوير‏:‏ 28‏]‏‏{‏إِلا مَنْ شَاءَ أَنْ يَتَّخِذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلا‏}‏ أي‏:‏ طريقا ومسلكا ومنهجا ُيقتدى فيها بما جئت به‏.‏

ثم قال‏:‏ ‏{‏وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لا يَمُوتُ‏}‏ أي‏:‏ في أمورك كلها كُن متوكلا على الله الحي الذي لا يموت أبدا، الذي هو ‏{‏الأوَّلُ وَالآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ‏}‏ ‏[‏الحديد‏:‏ 3‏]‏ الدائم الباقي السرمدي الأبدي، الحي القيوم ربّ كل شيء ومليكه، اجعله ذُخْرك وملجأك، وهو الذي يُتَوكل عليه ويفزع إليه، فإنه كافيك وناصرك ومؤيدك ومظفرك، كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 67‏]‏‏.‏

وقال ابن أبي حاتم‏:‏ حدثنا أبو زُرْعَة، حدثنا عبد الله بن محمد بن علي بن نُفَيْل قال‏:‏ قرأت على مَعْقِل -يعني ابن عبيد الله -عن عبد الله بن أبي حسين، عن شَهْر بن حَوْشَب قال‏:‏ لقي سلمانُ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم في بعض فجاج المدينة، فسجد له، فقال‏:‏ ‏"‏لا تسجد لي يا سلمان، واسجد للحي الذي لا يموت‏"‏ وهذا مرسل حسن‏.‏

‏[‏وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَسَبِّحْ بِحَمْدِهِ‏}‏، أي‏:‏ اقرن بين حمده وتسبيحه‏]‏؛ ولهذا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول‏:‏ ‏"‏سبحانك اللهم رَبَّنا وبحمدك‏"‏ أي‏:‏ أخلص له العبادة والتوكل، كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ لا إِلَهَ إِلا هُوَ فَاتَّخِذْهُ وَكِيلا‏}‏ ‏[‏المزمل‏:‏ 9‏]‏‏.‏

وقال‏:‏ ‏{‏فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ‏}‏ ‏[‏هود‏:‏ 123‏]‏‏{‏قُلْ هُوَ الرَّحْمَنُ آمَنَّا بِهِ وَعَلَيْهِ تَوَكَّلْنَا‏}‏ ‏[‏الملك‏:‏ 29‏]‏‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏وَكَفَى بِهِ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيرًا‏}‏ أي‏:‏ لعلمه التام الذي لا يخفى عليه خافية، ولا يعزب عنه مثقال ذرة‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ‏}‏ أي‏:‏ هو الحي الذي لا يموت، وهو خالق كل شيء وربه ومليكه، الذي خلق بقدرته وسلطانه السموات السبع في ارتفاعها واتساعها، والأرضين السبع في سفولها وكثافتها، ‏{‏فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ ‏[‏الرَّحْمَنُ‏]‏‏}‏، أي‏:‏ يدبر الأمر، ويقضي الحق، وهو خير الفاصلين‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ الرَّحْمَنُ فَاسْأَلْ بِهِ خَبِيرًا‏}‏ أي‏:‏ استعلم عنه من هو خبير به عالم به فاتبعه واقتد به، وقد عُلِم أنه لا أحد أعلم بالله ولا أخبر به من عبده ورسوله محمد، صلوات الله وسلامه، على سيد ولد آدم على الإطلاق، في الدنيا والآخرة، الذي لا ينطق عن الهوى، إن هو إلا وحي يوحى -فما قاله فهو حق، وما أخبر به فهو صدق، وهو الإمام المحكم الذي إذا تنازع الناس في شيء، وجب ردّ نزاعهم إليه، فما يوافق أقواله، وأفعاله فهو الحق، وما يخالفها فهو مردود على قائله وفاعله، كائنا من كان، قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 59‏]‏‏.‏

وقال‏:‏ ‏{‏وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ‏}‏ ‏[‏الشورى‏:‏ 10‏]‏، وقال تعالى‏:‏ ‏{‏وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلا‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 115‏]‏ أي‏:‏ صدقا في الإخبار وعدلا في الأوامر والنواهي؛ ولهذا قال‏:‏ ‏{‏فَاسْأَلْ بِهِ خَبِيرًا‏}‏ قال مجاهد في قوله‏:‏ ‏{‏فَاسْأَلْ بِهِ خَبِيرًا‏}‏ قال‏:‏ ما أخبرتك من شيء فهو كما أخبرتك‏.‏ وكذا قال ابن جريج‏.‏

وقال شمر بن عطية في قوله‏:‏ ‏{‏فَاسْأَلْ بِهِ خَبِيرًا‏}‏ قال‏:‏ هذا القرآن خبير به‏.‏

ثم قال تعالى منكرا على المشركين الذين يسجدون لغير الله من الأصنام والأنداد‏:‏ ‏{‏وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اسْجُدُوا لِلرَّحْمَنِ قَالُوا وَمَا الرَّحْمَنُ‏}‏‏؟‏ أي‏:‏ لا نعرف الرحمن‏.‏ وكانوا ينكرون أن يُسَمّى الله باسمه الرحمن، كما أنكروا ذلك يوم الحديبية حين قال النبي صلى الله عليه وسلم للكاتب‏:‏ ‏"‏اكتب بسم الله الرحمن الرحيم‏"‏ فقالوا‏:‏ لا نعرف الرحمن ولا الرحيم، ولكن اكتب كما كنت تكتب‏:‏ باسمك اللهم؛ ولهذا أنزل الله‏:‏ ‏{‏قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَنَ أَيًّا مَا تَدْعُوا فَلَهُ الأسْمَاءُ الْحُسْنَى‏}‏ ‏[‏الإسراء‏:‏ 110‏]‏ أي‏:‏ هو الله وهو الرحمن‏.‏ وقال في هذه الآية‏:‏ ‏{‏وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اسْجُدُوا لِلرَّحْمَنِ قَالُوا وَمَا الرَّحْمَنُ‏}‏‏؟‏ أي‏:‏ لا نعرفه ولا نُقر به‏؟‏ ‏{‏أَنَسْجُدُ لِمَا تَأْمُرُنَا‏}‏ أي‏:‏ لمجرد قولك‏؟‏ ‏{‏وَزَادَهُمْ نُفُورًا‏}‏، أما المؤمنون فإنهم يعبدون الله الذي هو الرحمن الرحيم، ويُفْرِدُونه بالإلهية ويسجدون له‏.‏ وقد اتفق العلماء -رحمهم الله -على أن هذه السجدة التي في الفرقان مشروع السجودُ عندها لقارئها ومستمعها، كما هو مقرر في موضعه، والله أعلم‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏61 - 62‏]‏

‏{‏تَبَارَكَ الَّذِي جَعَلَ فِي السَّمَاءِ بُرُوجًا وَجَعَلَ فِيهَا سِرَاجًا وَقَمَرًا مُنِيرًا وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُورًا‏}‏

يقول تعالى ممجدا نفسه، ومعظما على جميل ما خلق في السماء من البروج -وهي الكواكب العظام -في قول مجاهد، وسعيد بن جُبير، وأبي صالح، والحسن، وقتادة‏.‏

وقيل‏:‏ هي قصور في السماء للحرس، يروى هذا عن علي، وابن عباس، ومحمد بن كعب، وإبراهيم النخعي، وسليمان بن مِهْران الأعمش‏.‏ وهو رواية عن أبي صالح أيضا، والقول الأول أظهر‏.‏ اللهم إلا أن يكون الكواكب العظام هي قصور للحرس، فيجتمع القولان، كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَجَعَلْنَاهَا رُجُومًا لِلشَّيَاطِينِ‏}‏ ‏[‏الملك‏:‏ 5‏]‏؛ ولهذا قال‏:‏ ‏{‏تَبَارَكَ الَّذِي جَعَلَ فِي السَّمَاءِ بُرُوجًا وَجَعَلَ فِيهَا سِرَاجًا‏}‏ وهي الشمس المنيرة، التي هي كالسراج في الوجود، كما قال‏:‏ ‏{‏وَجَعَلْنَا سِرَاجًا وَهَّاجًا‏}‏ ‏[‏النبأ‏:‏ 13‏]‏‏.‏

‏{‏وَقَمَرًا مُنِيرًا‏}‏ أي‏:‏ مضيئا مشرقا بنور آخر ونوع وفن آخر، غير نور الشمس، كما قال‏:‏ ‏{‏هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً وَالْقَمَرَ نُورًا‏}‏ ‏[‏يونس‏:‏ 5‏]‏، وقال مخبرا عن نوح، عليه السلام، أنه قال لقومه‏:‏ ‏{‏أَلَمْ تَرَوْا كَيْفَ خَلَقَ اللَّهُ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقًا وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُورًا وَجَعَلَ الشَّمْسَ سِرَاجًا‏}‏ ‏[‏نوح‏:‏ 15 -16‏]‏‏.‏

ثم قال‏:‏ ‏{‏وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً‏}‏ أي‏:‏ يخلف كل واحد منهما الآخر، يتعاقبان لا يفتران‏.‏ إذا ذهب هذا جاء هذا، وإذا جاء هذا ذهب ذاك، كما قال‏:‏ ‏{‏وَسَخَّرَ لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دَائِبَيْنِ وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ‏}‏ ‏[‏إبراهيم‏:‏ 33‏]‏، وقال ‏{‏يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 54‏]‏وقال‏:‏ ‏{‏لا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ‏}‏ ‏[‏يس‏:‏ 40‏]‏‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُورًا‏}‏ أي‏:‏ جعلهما يتعاقبان، توقيتا لعبادة عباده له، فمن فاته عمل في الليل استدركه في النهار، ومن فاته عمل في النهار استدركه في الليل‏.‏ وقد جاء في الحديث الصحيح‏:‏ ‏"‏إن الله تعالى يبسط يده بالليل ليتوب مسيء النهار، ويبسط يده بالنهار ليتوب مسيء الليل‏"‏‏.‏

قال أبو داود الطيالسي‏:‏ حدثنا أبو حُرّة عن الحسن‏:‏ أن عمر بن الخطاب أطال صلاة الضحى، فقيل له‏:‏ صنعت اليوم شيئا لم تكن تصنعه‏؟‏ فقال‏:‏ إنه بقي علي من وردي شيء، فأحببت أن أتمه -أو قال‏:‏ أقضيه -وتلا هذه الآية‏:‏ ‏{‏وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً ‏[‏لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُورًا‏]‏‏}‏ ‏.‏

وقال علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس ‏[‏قوله‏:‏ ‏{‏وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً‏}‏‏]‏ يقول‏:‏ من فاته شيء من الليل أن يعمله، أدركه بالنهار، أو من النهار أدركه بالليل‏.‏ وكذا قال عكرمة، وسعيد بن جبير‏.‏ والحسن‏.‏

وقال مجاهد، وقتادة‏:‏ ‏{‏خِلْفَة‏}‏ أي‏:‏ مختلفين، هذا بسواده، وهذا بضيائه‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏63 - 67‏]‏

‏{‏وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّدًا وَقِيَامًا وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذَابَ جَهَنَّمَ إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَامًا إِنَّهَا سَاءَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقَامًا وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا‏}‏

هذه صفات عباد الله المؤمنين ‏{‏الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الأرْضِ هَوْنًا‏}‏ أي‏:‏ بسكينة ووقار من غير جَبَرية ولا استكبار، كما قال‏:‏ ‏{‏وَلا تَمْشِ فِي الأرْضِ مَرَحًا إِنَّكَ لَنْ تَخْرِقَ الأرْضَ وَلَنْ تَبْلُغَ الْجِبَالَ طُولا‏}‏ ‏[‏الإسراء‏:‏ 37‏]‏‏.‏ فأما هؤلاء فإنهم يمشون من غير استكبار ولا مرح، ولا أشر ولا بطر، وليس المراد أنهم يمشون كالمرضى من التصانع تصنعًا ورياء، فقد كان سيد ولد آدم صلى الله عليه وسلم إذا مشى كأنما ينحط من صَبَب، وكأنما الأرض تطوى له‏.‏ وقد كره بعض السلف المشي بتضعف وتصنع، حتى روي عن عمر أنه رأى شابًا يمشي رُويدًا، فقال‏:‏ ما بالك‏؟‏ أأنت مريض‏؟‏ قال‏:‏ لا يا أمير المؤمنين‏.‏ فعلاه بالدرة، وأمره أن يمشي بقوة‏.‏ وإنما المراد بالهَوْن هاهنا السكينة والوقار، كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏إذا أتيتم الصلاة فلا تأتوها وأنتم تسعون، وأتوها وعليكم السكينة، فما أدركتم فصلوا، وما فاتكم فأتموا‏"‏‏.‏

وقال عبد الله بن المبارك، عن مَعْمَر، عن يحيى بن المختار، عن الحسن البصري في قوله‏:‏ ‏{‏وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الأرْضِ هَوْنًا‏}‏ قال‏:‏ إن المؤمنين قوم ذُلُل، ذلت منهم -والله -الأسماعُ والأبصار والجوارح، حتى تحسبهم مرضى وما بالقوم من مرض، وإنهم لأصحاء، ولكنهم دخلهم من الخوف ما لم يدخل غيرهم، ومنعهم من الدنيا علمهم بالآخرة، فقالوا‏:‏ الحمد لله الذي أذهب عنا الحزن‏.‏ أما والله ما أحزنهم حزن الناس، ولا تعاظم في نفوسهم شيء طلبوا به الجنة، أبكاهم الخوف من النار، وإنه من لم يتعز بعزاء الله تَقَطَّعُ نفسُه على الدنيا حسرات، ومن لم ير لله نعمة إلا في مطعم أو في مشرب، فقد قلَّ علمه وحضَر عذابهُ‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلامًا‏}‏ أي‏:‏ إذا سَفه عليهم الجهال بالسّيئ، لم يقابلوهم عليه بمثله، بل يعفون ويصفحون، ولا يقولون إلا خيرًا، كما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم لا تزيده شدة الجهل عليه إلا حلما، وكما قال تعالى‏:‏ ‏{‏وَإِذَا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ وَقَالُوا لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ لا نَبْتَغِي الْجَاهِلِينَ‏}‏ ‏[‏القصص‏:‏ 55‏]‏‏.‏

وقال الإمام أحمد‏:‏ حدثنا أسود بن عامر، حدثنا أبو بكر، عن الأعمش، عن أبي خالد الوالبي، عن النعمان بن مُقَرّن المُزَني قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ‏[‏وسبّ رجلٌ رجلا عنده، قال‏:‏ فجعل الرجل المسبوب يقول‏:‏ عليك السلام‏.‏ قال‏:‏ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏أما‏]‏ إن ملكًا بينكما يذب عنك، كلما شتمك هذا قال له‏:‏ بل أنت وأنت أحق به‏.‏ وإذا قال له‏:‏ عليك السلام، قال‏:‏ لا بل عليك، وأنت أحق به‏.‏ ‏"‏ إسناده حسن، ولم يخرجوه‏.‏

وقال مجاهد‏:‏ ‏{‏قَالُوا سَلامًا‏}‏ يعني‏:‏ قالوا‏:‏ سدادًا‏.‏

وقال سعيد بن جبير‏:‏ ردوا معروفًا من القول‏.‏

وقال الحسن البصري‏:‏ ‏{‏قَالُوا ‏[‏سَلامًا‏}‏، قال‏:‏ حلماء لا يجهلون‏]‏ ، وإن جهل عليهم حلموا‏.‏ يصاحبون عباد الله نهارهم بما تسمعون، ثم ذكر أن ليلهم خير ليل‏.‏وقوله‏:‏ ‏{‏وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّدًا وَقِيَامًا‏}‏ أي‏:‏ في عبادته وطاعته، كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏كَانُوا قَلِيلا مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ وَبِالأسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ‏}‏ ‏[‏الذاريات‏:‏ 17 -18‏]‏، وقال ‏{‏تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ‏}‏ ‏[‏السجدة‏:‏ 16‏]‏ وقال ‏{‏أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ‏}‏ الآية ‏[‏الزمر‏:‏ 9‏]‏ ولهذا قال‏:‏ ‏{‏وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذَابَ جَهَنَّمَ إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَامًا‏}‏ أي‏:‏ ملازما دائما، كما قال الشاعر‏:‏

إنْ يُعَذّب يَكُنْ غَرَامًا، وإن يُعْ *** ط جزيلا فإنه لا يُبَالي

ولهذا قال الحسن في قوله‏:‏ ‏{‏إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَامًا‏}‏‏:‏ كل شيء يصيب ابن آدم ويزول عنه فليس بغرام، وإنما الغرام اللازم ما دامت السموات والأرض‏.‏ وكذا قال سليمان التيمي‏.‏

وقال محمد بن كعب ‏[‏القرظي‏]‏‏:‏ ‏{‏إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَامًا‏}‏ يعني‏:‏ ما نعموا في الدنيا؛ إن الله سأل الكفار عن النعمة فلم يردوها إليه، فأغرمهم فأدخلهم النار‏.‏

‏{‏إِنَّهَا سَاءَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقَامًا‏}‏ أي‏:‏ بئس المنزل منظرا، وبئس المقيل مقامًا‏.‏

‏[‏و‏]‏ قال ابن أبي حاتم عند قوله‏:‏ ‏{‏إِنَّهَا سَاءَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقَامًا‏}‏‏:‏ حدثنا أبي، حدثنا الحسن بن الربيع، حدثنا أبو الأحوص عن الأعمش، عن مالك بن الحارث قال‏:‏ إذا طُرح الرجل في النار هوى فيها، فإذا انتهى إلى بعض أبوابها قيل له‏:‏ مكانك حتى تتحف، قال‏:‏ فيسقى كأسا من سُمِّ الأساود والعقارب، قال‏:‏ فيميز الجلد على حدة، والشعر على حدة، والعصب على حدة، والعروق على حدة‏.‏

وقال أيضًا‏:‏ حدثنا أبي، حدثنا الحسن بن الربيع، حدثنا أبو الأحوص، عن الأعمش، عن مجاهد، عن عُبيد بن عمير قال‏:‏ إن في النار لجبابًا فيها حيات أمثال البخت، وعقارب أمثال البغال الدلم، فإذا قذف بهم في النار خرجت إليهم من أوطانها فأخذت بشفاههم وأبشارهم وأشعارهم، فكشطت لحومهم إلى أقدامهم، فإذا وجدت حر النار رجعت‏.‏

وقال الإمام أحمد‏:‏ حدثنا الحسن بن موسى، حدثنا سلام -يعني ابن مسكين -عن أبي ظلال، عن أنس بن مالك -رضي الله عنه -عن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏"‏إن عبدًا في جهنم لينادي ألف سنة‏:‏ يا حنان، يا منان‏.‏ فيقول الله لجبريل‏:‏ اذهب فآتني بعبدي هذا‏.‏ فينطلق جبريل فيجد أهل النار مُنكبين يبكون، فيرجع إلى ربه عز وجل فيخبره، فيقول الله عز وجل‏:‏ آتني به فإنه في مكان كذا وكذا‏.‏ فيجيء به فيوقفه على ربه عز وجل، فيقول له‏:‏ يا عبدي، كيف وجدت مكانك ومقيلك‏؟‏ فيقول‏:‏ يا رب شر مكان، شر مقيل‏.‏ فيقول‏:‏ ردوا عبدي‏.‏ فيقول‏:‏ يا رب، ما كنت أرجو إذ أخرجتني منها أن تردني فيها‏!‏ فيقول‏:‏ دعوا عبدي‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا‏}‏ أي‏:‏ ليسوا بمبذرين فيإنفاقهم فيصرفون فوق الحاجة، ولا بخلاء على أهْليهم فيقصرون في حقهم فلا يكفونهم، بل عَدْلا خيارًا، وخير الأمور أوسطها، لا هذا ولا هذا، ‏{‏وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا‏}‏، كَمَا قَالَ‏:‏ ‏{‏وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَحْسُورًا‏}‏ ‏[‏الإسراء‏:‏ 29‏]‏‏.‏

وقال الإمام أحمد‏:‏ حدثنا عصام بن خالد، حدثني أبو بكر بن عبد الله بن أبي مريم الغساني، عن ضَمْرَة، عن أبي الدرداء، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏"‏من فقه الرجل رفقه في معيشته‏"‏‏.‏ ولم يخرجوه‏.‏

وقال ‏[‏الإمام‏]‏ أحمد أيضًا‏:‏ حدثنا أبو عبيدة الحداد، حدثنا سُكَين بن عبد العزيز العَبْدي، حدثنا إبراهيم الهَجَري عن أبي الأحوص، عن عبد الله بن مسعود قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏ما عال من اقتصد‏"‏‏.‏ ولم يخرجوه‏.‏

وقال الحافظ أبو بكر البزار‏:‏ حدثنا أحمد بن يحيى، حدثنا إبراهيم بن محمد بن ميمون حدثنا سعيد بن حكيم، عن مسلم بن حبيب، عن بلال -يعني العبسي -عن حذيفة قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ‏"‏ما أحسن القصد في الغنى، وأحسن القصد في الفقر، وأحسن القصد في العبادة‏"‏ ثم قال‏:‏ لا نعرفه يروى إلا من حديث حذيفة رضي الله عنه‏.‏

وقال إياس بن معاوية‏:‏ ما جاوزت به أمر الله فهو سرف‏.‏

وقال غيره‏:‏ السرف النفقة في معصية الله‏.‏

وقال الحسن البصري‏:‏ ليس النفقة في سبيل الله سرفا ‏[‏والله أعلم‏]‏‏.‏